فقلت: نعم أعرفها، لعبد الصمد بن المُعَذّل يهجوه، فقال لي: يا هذا، قد غلبتَ بخفَّة روحك على قلبي، وأعجبني استحسانُك لما أتيتَ به، فما الكُنية؟ قلت: أبو العبَّاس، قال: فالاسم؟ قلت: محمَّد، قال: ابن مَن؟ قلت: ابن يزيد، فقال: ما أحوجَني إلى الاعتذار إليك ممَّا قدَّمْتُ ذكره، ثمَّ وثب باسطًا يدَه ليُصافحني، فإذا القَيدُ في رجله قد شُدَّ إلى خَشَبةٍ في الأرض، فأَمِنْتُ عند ذلك غائلتَه، فقال لي: يا أبا العبَّاس، صُنْ نفسَك عن الدُّخول إلى هذه المواضع؟ فليس يتهيَّأ لك في كلّ وقتٍ أن تُصادف مثلي على هذه الحالة، ثمَّ انقلبت عيناه، وتغيَّر حالُه، وجعل يصفق ويقول: المبرد المبرّد، فبادَرْتُ مُسرعًا خوفًا أن تَبْدُرَ منه بادِرة، وقَبلْتُ قولَه، فلم أدخل بعدها دار المرضى.
وقال المبرد: دخلتُ مرةً دارَ المرضى، فناداني شابّ مقيَّد: يا ابن يزيد، فقلت: لبيك، فقال: أتعرف بني فلان؟ وأشار إلى حيٍّ من أحياء العرب، فقلت: نعم، فقال: هم الذين حيَّروني وأحَلُّوني هذا المحلَّ، قلت: فما الذي فعلوا؟ قال:[من السريع]
زَمُّوا المطايا واستقلُّوا ضُحًى … ولم يُبالوا قَلْبَ مَن تَيَّموا
ما ضرَّهم واللهُ يَرْعَاهمُ … لو وَدَّعوا بالطَّرْفِ أو سَلَّموا
ما زلتُ أَذْري الدَّمعَ في إثْرهم … حتَّى جَرى من بعد دمعي دمُ
ما أنصفوني يومَ بانوا ولم … يَرْعَوا أماناتي ولم يرحموا
ودَّعتهم من حيث لم يعلموا … ورُحتُ والقلبُ بهم مُغْرَمُ (١)
ثمَّ صاح صيحة خرجت نفسُه معها.
وقال المبرد: خرجْتُ ومعي جماعة من أصحابي نحو الرقَّة، وإذا بدَيرٍ كبير، فقال بعض أصحابنا: مِلْ بنا إليه لننظرَ مَن فيه، ونحمدَ الله على ما رَزقنا من السَّلامة،
(١) ذكر ابن حبيب في عقلاء المجانين ١٤٣، والسراج في مصارع العشاق ١/ ١٦٣ البيتَ الأول والثاني والخامس والسادس عن أبي الحسن المؤدِّب، وذكر أيضًا في عقلاء المجانين ١٤٨، ومصارع العشاق ١/ ٤٩ البيت الثالث والرابع والسابع عن سهلان القاضي باختلاف في ألفاظها.