أعداؤك، وأنا رجلٌ مقيمٌ في فلاةٍ لا زَرْعَ فيها ولا ضَرْع، قد رضيتُ لنفسي بخُشونة العيش، والتَّقلُّب على أطراف الرِّماح، وما غَصَبْتُ لك بلدًا، ولا أزلتُ لك سلطانًا، ومع هذا فوالله لو أرسلتَ إليَّ جميع عساكرك ما ظفرتَ منِّي بطائلٍ؛ لأنَّك تبعثُ إليَّ رجالًا قد تعوَّدوا شُرْبَ الماءَ بالثَّلج، وشمَّ الرياحين، والمآكلَ اللذيذة، والأماكنَ الباردة، فيجيؤون من المسافة البعيدة وقد ضَنكهم العيشُ والتعب، فما يَمْكثُون إلا ساعةً من نهار ثمَّ يُهزمون، وإن ظهروا على دخلتُ الصَّحارى أنا ورجالي، وقد تعوَّدْنا القَشَف وخشونةَ العيش، فلا يقدرون عليَّ، ثمَّ إنَّني آتيهم على غِرَّة فأقتلهم وأغنم أموالهم، ويعودُ فَلُّهم إليك، فما تَحظى إلا بكَسْر الحُرْمَة، وإنفاق الأموال، وإطماع العدوِّ فيك، وأنا فما أُنفقُ مالًا، ولا أتكلَّفُ مَشَقَّةً …
وذكر كلامًا طويلًا في هذا المعنى، وبعث معي رجالًا أوصلوني إلى مأمَني، وأعطاني نَفَقةً، فلمَّا دخلتُ على المعتضد أَعَدْتُ عليه ما قال، فتمعَّطَ في جلده غَيظًا حتَّى قلت: إنَّه يسير إليه بنفسه، ثمَّ أفكر فكأنَّه عَرف صدقَ قوله، فما ذكره بعد ذلك.
ثمَّ ولَّى المعتضد العبَّاسَ الغَنَويَّ اليمامة والبحرين ومُحاربَةَ القرمطي، فخرج إليها في رجب، وجاءه القرمطيُّ فاقتتلوا، فانهزم العبَّاس، ولحقه القِرمطي فأسره، وأسر معه سبعَ مئة رجل، وغنم ما كان في العسكر، وقتل السَّبع مئة، ثمَّ أحرقهم، وسار إلى هَجَر فأمَّنهم ودخلها، وهرب أهل البصرة، وكان بها أحمد بن محمَّد الواثقيّ فسكَّنهم.
ثمَّ أطلق القرمطيُّ العبَّاسَ، فوافى بغداد في رمضان، ويقال: إنَّ هذه الوقعة هي التي أسر القرمطي فيها العبَّاس في الأوَّل، ولما أسره دَعا به وقال: أتحبُّ أن أُطلِقَك؟ قال: نعم، قال: امْضِ وعرِّف الذي وجَّه بك ما رأيت من قِبَل أصحابه وتحريقهم، وأرسل معه رجالًا من القرامطة يحملون الزَّاد والمال إلى الأُبُلَّة، فأوصلوه، فجاء إلى البصرة، وقدم على المعتضد فحكى له ما شاهد، وقال له: يا أمير المؤمنين، أقمتُ عنده ثمانيةَ عشر يومًا ما أكلت إلا الطُّرموس (١) والتَّمر، قال: والمعتضد مُطرِقٌ قابِضٌ على لحيته، لا يرفع طَرْفَه، فإذا رفعه نظر إليَّ شَزْرًا، فلم أزل خائفًا حتَّى خرجتُ من