الله قد بعث نبيًّا فَهلمَّ بنا نأته فعنده بيانُ ما قلتُ لكَ، فخرجا على حمارَيهما وتزوَّدا ما يصلحهما، ثم سارا أيامًا، فلَقيتهما مفازةٌ فسارا فيها إلى أنْ تعالى النهارُ واشتدَّ الحرُّ ونفدَ الماءُ والزادُ، واستبطآ حمارَيهما فنزلا وجعلا يشدَّان على سُوقهما، فنظر لقمانُ إلى سوادٍ أمامه ودخان فقال في نفسه: الدُّخانُ عمران والسواد شجر، فوطئ ابن لقمان على عظم ناتئ في الطَّريق فدخل في باطن قدَمه وظهر من أعلاه، فخرَّ صريعًا مغشيًّا عليه، فقعد لقمان ووضع رأس ابنه في حجره، واستخرج العظم بأسنانه، وشقَّ عمامته فشدَّ بها رجلهُ، ثم نظر إلى وجه ابنه فذَرفت عيناه وقَطَرت قطرةٌ من دمعه على خدِّ الغلام فانتبه لها، فرأى أباه يبكي فقال: يا أبتِ أنتَ تقولُ هذا خير لي، وكيف يكون كذلك وقد نفد الطعام والشراب- أو الماء- ونحن في هذه المفازَة، وقد دخل هذا العظمُ في قَدَمي، فإنْ أقمنا متنا جميعًا، وإنْ ذهبتَ وتركتَني ذهبتَ بهمٍّ وغمٍّ، فقال لقمانُ: أمَّا بكائي فرقَّةُ الوالد، وودتُ أني أفديكَ بجميع مالي من الدنيا، وأمَّا قولك كيف يكون هذا خيرًا لي فلعلَّ ما صرف عنك أعظم مما بليتَ به.
ثم نظر لقمانُ أمامه فلم يرَ الدخانَ ولا السوادَ، وإذا شخصٌ قد أقبل على فرس أَبْلَقَ عليه ثيابٌ بيضٌ وعمامةٌ بيضاءٌ يمسحُ الهواء مسحًا، فلمَّا قَرُبَ منهما توارى عنهما وصاح: أنت لقمان؟ قال: نعم، قال: الحكيم؟ قال: كذا يقال. ثم قال لقمان: يا عبد الله من أنت؟ أسمعُ كلامكَ ولا أرى وجهكَ، قال: أنا جبريل لا يراني إلا مَلك مقرَّب أو نبيٌّ مرسل ولولا ذلك لرأيْتَني، ما قال لك ابنك هذا السفيه؟ قال لقمان في نفسه: إن كنتَ جبريل فأنت أعلم بما قال مني، فقال جبريل: ما لي بشيءٍ من أمركما علمٌ، ولكنَّ ربِّي أمرني أن أخسِفَ بهذه المدينة وما يليها، فأُخبرت أنكما تُريدانها، فدعوتُ الله أن يَحبسكما عنها بما شاءَ، فحبسكما بما ابتليَ به ابنكَ، ولولا ذلك لَخُسف بكما مع من خسف.
ثم مسح جبريل على قَدَم الغلام فاستوى جالسًا أو قائمًا، ومسح يده على الإناء الذي فيه الطعام والشراب فامتلأ طعامًا وَشرابًا أو ماءً، ثم ركبا حمارَيهما فإذا هما في الدار التي خرجا منها.
وقال ابن عباس: مازال لقمان يعظ ابنه ويقول: يا بُنَيَّ، يا بُنَيَّ، حتى انفطرت مرارته وانصدع قلبه فمات.