هذا عملًا يصون به نفسَه كان أولى، ونمت تلك الليلة، فرأيتُ ذلك الفقيرَ قد جيء به على خِوان وهو ممدود، فقيل لي: كُلْ لَحْمَه فقد اغتبتَه، فلمَّا أصبحتُ خرجتُ أطوف عليه، وإذا به على دِجلةَ يلتقط أوراقَ البَقْل وما ينفصل منه، فلمَّا رآني قال: يا أبا القاسم، تعود؟ قلت: لا. قال: يغفر الله لنا ولك.
وقال الخلديُّ: جاءه رجل بخمس مئة دينار في أيَّام الموسم فقال: فرِّقها في الفقراء، فقال: ألكَ غيرها؟ قال: نعم، قال: أفترجو الزيادة فوقَ ما تملك؟ قال: نعم، قال: خذها، فأنت أحوجُ منَّا إليها، ولم يقبلها.
وكان يصحب الجنيدَ شابٌّ يتكلَّم على الخاطر، فقال له الجنيد يومًا: إيش هذا الذي يُذكَر عنك؟ فقال له الشابُّ: اعتقدتَ كذا وكذا، فقال الجنيد: لا، ثمَّ فعل ذلك ثانيًا وثالثًا، والجنيد يقول: لا. فقال الشابُّ: أنت صدوق، وأنا أعرف قلبي، فما هذا؟ فقال الجنيد: صدقتَ في جميع ما قلتَ، وإنَّما أردتُ أن أمتحنك هل يتغيَّر قلبُك أم لا.
وقال الجنيد: رأيتُ شابًّا في البادية تحت شجرة أمِّ غَيلان، فقلت له: ما تصنع هاهنا؟ فقال: حالٌ فقدتُه، فمضيتُ وتركتُه، فلمَّا قضيتُ الحجَّ عدتُ، وإذا به قد انتقل من ذلك المكان إلى مكان آخر قريبٍ من الشجرة، فقلت له: ما جلوسك هاهنا؟ قال: وجدتُ الذي كنتُ أطلبه في هذا الموضع فلزمتُه، قال الجنيد: فلا أدري أيّهما كان أشرف، لزومُه للمكان الأوَّل لفقد حاله فيه، أو لزومه للموضع الذي نال فيه مُرادَه.
وقال جعفر الخلديُّ: دفع إليَّ الجنيدُ درهمًا وقال: اشتر لي به تينًا وَزيريًّا، فاشتريتُه له وأتيتُه به، فأخذ واحدةً وجعلها في فيه، ثمَّ رمى بها وبكى، فقلت: ما لَكَ؟ فقال: هتف بي هاتف: أما تستحي، تركتَ هذا من أجلي ثمَّ تعود إليه؟
وقال الجنيد: جاءني يومًا بعضُ الصالحين فقال: ابعث معي فقيرًا أُدخل عليه سرورًا، ويأكل عندي شيئًا، قال: وعندي فقيرٌ قد شَهِدت فيه الفاقة، فقلتُ: امضِ معه وأدخل عليه سرورًا.
فمضى معه ثمَّ عاد سريعًا، وجاء الرجل فقال: يا أبا القاسم، ما أكل إلَّا لُقمةً، فقلت له: هلَّا أتممتَ سرورَ الشيخ، فقال: أكلتُ أكلةً في الكوفة، ودخلتُ عليك في