ولمَّا رجع الهجري إلى بلده بني دارًا سمَّاها دار الهجرة، ودعا إلى المهدي، وتفاقم أمرُه، وكثُر أتباعُه، وهرب عمَّالُ الكوفة من بين يديه، وبثَّ السرايا في السَّواد وغيره فأخربوه، فبعث المقتدر هارون بن غَريب إلى واسط، وصافي إلى الكوفة، فوقع هارون على جماعة منهم فقتلهم، وبعث بجماعة منهم أُسارى إلى بغداد مشهورين على الجمال، ومعهم مئةٌ وسبعون رأسًا وأعلامٌ بيضٌ مُنكَّسة عليها مكتوب: ﴿وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ﴾ [القصص: ٥] فقُتلوا، واستقام أمرُ السواد وطابت قلوبُ النَّاس.
وفيها استوحش نازوك، ووقع بينه وبين هارون حربٌ في ذي القعدة، وسببه: أن سُوَّاس نازوك وهارون تغايروا على غلام أمرد، فأخذ نازوك سُوَّاس هارون فحبسهم بعد أن ضربهم، فوثب أصحاب هارون وانتزعوهم، فدخل نازوك على المقتدر فشكا هارونَ، فلم يكن من المقتدر إنكار، فخرج نازوك مُحْفَظًا، وجمع رجاله، وجمع هارون أصحابه، وزحف نازوك إلى دار هارون، فخرج إليه أصحابه واقتتلوا، وقُتل من الفريقين جماعةٌ.
وركب الوزير ابنُ مُقْلَة ومُفلح الأسود وأدَّيا إليهما رسالةَ المقتدر بالكفِّ فكفَّا. وأقام نازوك في داره يتمرَّض، وجاء إليه هارون بن غريب، واصطلحا وزال ما كان بينهما.
وكَثُر الإرجافُ بأن هارون يتولَّى إمرة الأمراء، وكان مؤنس بالرَّقَّة، فكتب إليه أصحابُه من بغداد بذلك، فسار على طريق الموصل، فقدم بغداد لثلاث بقين من ذي الحِجَّة يوم الأربعاء، ولم يدخل على المقتدر، فبعث إليه ولدَه والوزيرَ ابنَ مُقْلَة، فسلَّما عليه ووصفا شوقَ المقتدر إليه، فاعتل بعلَّةٍ شكاها، وظهرت الوَحْشةُ بينه وبين المقتدر.
وأقام هارون في دار السلطان مُنابذًا لمؤنس، وأقامت الرسلُ تتردَّد بين مؤنس والمقتدر، وسنذكر في سنة سبع عشرة ما آل الأمر إليه إن شاء الله تعالى.