وكان القاهرُ جالسًا في التِّسعيني وابنُ مُقْلَة بين يديه ونازوك وأبو الهَيجاء، فبعث نازوك إليهم يُخوِّفُهم -وكان مَخمورًا قد شرب طول ليلته- فقام إلى الرَّوْشَن، فلمَّا رأوه أسرعوا إليه فهرب منهم، فطمعوا فيه فتبعوه، فانتهى به الهَرَب إلى باب كان قد سدَّه أمس ذلك اليوم بالآجرِّ والجصّ، فلم يُمكنه النُّفوذ فيه، فلَحقوه فقتلوه، وقد كانوا قتلوا قبله خادمَه عجيبًا، وصاحوا للمقتدر: يَا منصور، فتهارب كل مَن في دار السلطان: الوزيرُ والحُجَّابُ والجُندُ وسائرُ النَّاس، حتَّى بقيت الدَّار والشُطوط والمَمرَّات خاليةً، وصاروا إلى دار مؤنس يطلبون المقتدرَ ليَرُدُّوه إلى الخلافة، وبادر الخدم فأغلقوا باب دار السلطان، وكانوا جميعهم خدمَ المقتدر وحاشيتَه.
وأراد أبو الهيجاء الخروجَ، فتعلَّق به القاهر وقال له: يَا أَبا الهيجاء، تُخلِّيني وتخرج؟ فتداخلَتْه الحَميَّةُ والأَنَفَة فقال: لا والله. ورجع معه، فوجد الأبواب مُغلقةً، فقال له أبو الهيجاء: امضِ فوالله لا أُفارقك أو أقتل دونك. فمضيا حتَّى دخلا الفردوسَ، وخرجا إلى الرَّحبة التي يُسلَك منها إلى باب النُّوبي، ونزع أبو الهيجاء سَوادَه ومِنْطَقتَه ودفعها إلى غلامٍ له، وأخذ جُبَّتَه وكانت من صوف، وركب فرسه وانصرف، ووقف القاهرُ مع خدمٍ له، وعاد إليه ابن حمدان فقال للقاهر: قُتِل نازوك وثارت العامَّةُ من جانبي بغداد. وسُدَّتْ على أبي الهيجاء والقاهر المَسالك، فقال أبو الهيجاء: هذا أمرٌ من السماء، فارجع بنا إلى الدار، فدخلا من الفردوس، وجعل مَن معهما من الخدم يتسلَّلون أوَّلَا أولًا.
وبقي من خدم المقتدر جماعةٌ فجرَّدوا السيوف، ورآهم أبو الهيجاء فرهقهم فوقفوا، ثم رجع القَهْقَرى، فدخل في بيمق من ساج مُفرَدًا، وجاء خماجور -أحدُ الغلمان الأكابر الحُجْرية- فقال للخدم يُحرشونه حتَّى يخرج (١)، فشتموه، فغضب وخرج كالجمل الهائج وصاح: يا لَتغلب، أأُقْتَل بين الحيطان؟ أين الكُمَيتُ؟ أين الدّهماءُ؟ فرماه خماجور بسهم فأصاب ثَدْيَه، وأتبعه بآخر فأصاب تَرْقُوَتَه، ورماه بثالث فشكَّ فَخِذَيه، فضرب أبو الهيجاء الذي شكَّ فخذيه فقطعه، وجذب السَّهم الذي أصاب ثديه