للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

ورأيتُه يدعو بالأموال والجواهر، ويُفرِّقُها في الجواري، ويمَزِّقها ويَمْحَقُها: ذكرتُ قولَ المعتضد فأبكي.

وقال صافي: كنتُ واقفًا على رأس المعتضد فقال للخادم الذي على خزانة الطِيب: كم عندك من الغالية؟ فقال: نيِّفٌ وستون حُبًّا صينيًّا ممَّا عمله عِدَّةٌ من الخلفاء (١). فقال: أيُّها أطيب؟ قال: ما عمله الواثق. قال: أحضِرْنيه، فأحضَر حُبًّا يَحمله عِدَّةٌ من الخَدَم بدَهَق (٢)، ففتحه وإذا بغاليةٍ قد ابيضَّت من التَّعْشِيب، فأعجب المعتضد، فأخذ من حول رأس الحُبِّ يَسيرًا، فلطَّخ به لحيتَه من غير أنْ يُشَعِّثَ رأسَ الحُبّ، ثم رفعه.

ومات المعتضد وولي المكتفي، فسأل الخادمَ عن الطِّيب، فأخبره بمثل ما أخبر به المعتضد، فأمر بإحضار الحُبِّ، فأخذ منه شيئًا يسيرًا، وخَتَمَه ورُفِع.

ومات المكتفي وولي المقتدر، فاستدعى الخادم، وسأله عن الطِّيب، فأخبره كما أخبر أباه وأخاه، فقال: هاتوا الحِبابَ كلَّها، فأُحضِرَت، ففرَّقها في الجَواري، ورأى ذاك ناقصًا، فسأل الخادمَ فأخبره، فأخذ يُبَخِّل الرَّجُلَين، وجعل يُفرِّقُه على الجواري، حتى بقي فيه شيءٌ يسير، وأنا أتمزَّقُ غيظًا، وأذكر كلام المعتضد، فبكيتُ وقلتُ: هذه غالية لا يوجد مثلُها، فلو فرَّقتَ من غيرها وأبقيتَها لك فاستحيى منِّي، وما مضت إلا سنينٌ من خلافته حتى فَنِيَت تلك الغَوالي، واحتاج إلى عَجْن غاليةٍ بمالٍ عظيم.

وحكى القاضي التَّنوخي: أنَّ امرأةً يقال لها: نظم كانت تَخْدُم السيدةَ أمَّ المقتدر، وكانت دايةَ أبي القاسم يوسف بن يحيى، فرفعَتْه حتى أَثْرى وصار له مالٌ عظيم، فعزم على تطهير ابنه، وعرفت السيدةُ فأرسلت إليه من الحيوانات والفواكه شيئًا عظيمًا، ومن الثياب والآنية والمال شيئًا كثيرًا، فقال لنظم: قد بقي يُعْوزُنا شيءٌ واحد؛ وهو القريةُ التي للخليفة -وكانت له قرية من فضة، فيها البيوتُ والشَّجرُ والبقر والغنم والجِمال والجَواميس والفلاحون والزرع وكل ما يكون في القرى- فقالت له: متى سمعتَ بخليفة يُعيرُ شيئًا؟ وهل يجوز أن يكونَ في دار الخليفة شيءٌ فيُخْرَج إلى الناس؟


(١) في تاريخ بغداد ٨/ ١٣١: نيف وثلاثون حبًّا … والمثبت موافق للمنتظم ١٣/ ٦٧. والحب: الخابية، أو الجرَّة الكبيرة.
(٢) هما خشبتان.