وكان [مع هذا الحفظ] مُتواضِعًا، صَدوقًا، ثِقةً، دَيِّنًا، قال الدارقُطني: حضرتُ يومًا مجلسَ إملائه، فصحَّف حَيَّان بحِبَّان، فأعظمتُ أنْ يُحمَلَ عنه -في فَضْله وجَلالة قَدرِه- وَهمٌ، وهِبْتُه أنْ أفاوضَه في ذلك، فقلتُ للمُسْتَملي وبينتُ له الصَوابَ وانْصَرَفتُ، وعَرَّفه المُسْتَملي، فلمَّا كان في الجمعة القابِلة حضرتُ وحضر الجماعة، فقال أبو بكر للمستملي: عَرِّف الجماعةَ أنَّنا صَحْفنا الاسمَ الفُلاني في المَجْلس الماضي في حديث كذا وكذا، ونبَّهنا ذاك الشاث عليه وأشار إليَّ، وأنَا كَشَفْنا الأصلَ فوَجدناه كما قال.
[قال الخطيب: وكان لا يأكل إلا القَلايا، ولا يشرب إلا الماء البارد.
قال:] وقال (١) أبو الحسن العَرُوضِي: اجتمعتُ أنا وأبو بكر بن الأنباري عند الرَّاضي، وكان الطَّباخ قد عرف ما يأكل، فكان يشوي له قَلِيَّة يابسة، ونحن نأكل ألوانَ الطَّعام وأطايبَه، وهو يُعالجُ تلك القَليَّة، ولما فَرَغْنا أكلنا الحَلوى، وشربنا الماء المَمزوج بالثَّلج، ولم يشرب [بعد القَليَّةِ] ماءً إلى العصر، فشرب من ماء الحبِّ غير مبرَّدٍ بالثلج، فقلتُ له: لم تُعَذِّب نفسَك في الدنيا؟ قال: أُبقي على حِفظي وعلمي، فقلتُ: قد أكثر الناس في حفظك، فقال: أحفظُ ثلاثة عشر صندوقًا.
[قال:] وحضر بين يدَيه رُطَبٌ، فجعل يُقلِّبه ويقول: إنَّك لَطَيّب، وأطيبُ منك حِفْظُ ما وهبه الله لي من العلم.
[قال:] فلمَّا وقع في الموت أكلَ كلَّ ما يَشتهيه وقال: إنَّما هي عِلَّة الموت.
وكان يدرُسُ في كلِّ جمعة عشرةَ آلاف ورقة [وكان هذا دأبَه].
وقال: دخلتُ مارَسْتانَ باب مُحَوّل، فسمعتُ رجلًا في بيتٍ يقرأُ: ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا كَيفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ﴾ [العنكبوت: ١٩] ثم قال لنفسه: أنا لا أقفُ على قوله ﴿ثُمَّ يُعِيدُهُ﴾ بل على قوله: ﴿كَيفَ يُبْدِئُ اللَّهُ﴾ فأقف على ما عَرفه القوم وأقرُّوا به؛ لأنَّهم لم يكونوا يقِرُّون بالبعث، ثم أبتدئُ بقوله ﴿ثُمَّ يُعِيدُهُ﴾ فيكونُ خبرًا.
(١) ما بين معكوفين من (ف م م ١). وانظر تاريخ بغداد ٤/ ٣٠١. القلايا جمع قَلِية، وهي مرقة تتخذ من اللحوم والأكباد.