وأظهرَ العدل، وكان يتولَّى رفعَ المظالم بنفسه، وبنى دار الضِّيافة للضعفاء والمساكين بواسط، وابتدأ بعمارة المارستان ببغداد، وهو الذي جدَّده عضد الدولة بالجانب الغربي.
وكانت له أموالٌ كثيرة [عظيمة]، فكان يَدفِنها في داره وفي الصحارى، وكان يأخذُ رجالًا في صناديق فيُقْفلُها عليهم، ويأخذ صناديقَ فيها مالٌ ويخرج بها إلى الصحراء، ثم يفتحها عليهم ويدفنون المال، ثم يعيدُهم إلى الصّناديق، فلا يدرون أين دفنوها، وكان يقول: إنَّما أفعلُ هذا لأني أخافُ أن يُحال بيني وبين داري، فضاعت بموته الدفائن.
وقال ثابت بن سِنان: كان بَجْكم يُؤثر أن يكون أبي عنده، وكان أبي خَصِيصًا بالراضي، فلمَّا مات الراضي استدعاه إلى واسِط وقال له: أُريد أنْ أعتمدَ عليك في تدبير بَدَني، وفي أمر آخرَ هو أهمُّ إليَّ من بَدَني وهو تهذيب أخلاقي، فقد غلب عليَّ الغَضَبُ وسوءُ الخُلُق حتى أَخرج إلى ما أندَمُ عليه من قَتْلٍ وضَرب، وأنا أسألك إذا وقفتَ على عَيْبٍ لم تحتشم أنْ تَصدُقَني عنه، وتُنَبِّهني عليه، ثم تُرشدني إلى علاجه، فقال له: سمعًا وطاعةً أفعل ذلك، ولكن يسمع الأمير منِّي عاجلًا جُملةً يَتَّسِعُ بها إلى أن يأتي التفصيلُ في أوقاته:
اعلم أنَّك قد أصبحتَ وليس أحدٌ يحولُ بينك وبين ما تُريد أيَّ وقتٍ شئتَ، واعلم أنَّ الغضب يُحدث في الإنسان حالةً أشدّ من سُكْرِ النَّبيذ وأبلغ، فإذا سكن الغضبُ نَدِم على ما فعل، كما أنَّ السَّكْران إذا أفاق نَدِم على ما بدا منه، فإذا رأيتَ الغضبَ قد استولى عليك فضَعْ في نفسك أنَّك تُؤخِّر العُقوبةَ إلى غدٍ، فإنَّك إذا بتَّ ليلةً سكن غضبُك، ثم قدِّم أمرَ الله والخوفَ منه، فمَن شفى غيظَه أَثِم، واذكر قُدرةَ الله عليك، وأنك مُحتاجٌ إلى رحمته وخصوصًا في أوقات شدائدك، فكما تحبُّ أنْ يعفوَ الله عنك فكذا غيرُك يؤمِّل عفوَك، واذكر قوله: ﴿أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ﴾ [النور: ٢٢] ثم يصيرُ العفوُ عادةً وخُلُقًا لك، فعمل بجكم بما قاله (١).
(١) هذا الخبر ليس في (م ف م ١)، وانظر المنتظم ١٤/ ١٠ - ١١ (وعنه ينقل)، وتاريخ الإسلام ٧/ ٤٣٢.