وكنتَ تُجيرُ من صَرْفِ الليالي … فعاد مُطالبًا لك بالتِّرات
أسأْتَ إلى النَّوائبِ فاسْتَثارت … فأنتَ قَتيلُ ثأر النَّائباتِ
وصَيَّر دَهْرُك الإحسانَ فيه … إلينا من عَظيمِ السَّيِّئاتِ
غَليلي باطنٌ لك في فؤادي … يُخَفَّفُ بالدُّموعِ الجارياتِ
ولو أني قَدَرْتُ على قيامي … بفَرْضِك والحُقوقِ الواجباتِ
مَلأتُ الأرضَ من نَظْمِ المَراثي … ونُحْتُ بها خِلافَ النَّائحاتِ
ولكنِّي أُصَبِّرُ عنك نفسي … مَخافَةَ أن أُعَدَّ من الجُناةِ
وما لك تُربةٌ فأقولُ تُسْقى … لأنَّك نُصْبُ هَطْلِ الهاطِلاتِ
عليكَ تَحيَّةُ الرَّحمنِ تَتْرى … برَحْماتٍ رَوائحَ غادياتِ (١)
وبلغتْ عضدَ الدولة، فأباح دمَ الأنباري، وجدَّ في طَلَبه سنةً فلم يوجَد، وبلغت الأبياتُ الصاحبَ إسماعيلَ بن عَبَّاد، فكتب له أمانًا، وكان ابنُ عَبَّاد بالرَّيِّ، فقدم الرجلُ عليه، فقال: أَنْتَ قائلُ الأبيات؟ قال: نعم، قال: أنشِدْني إيَّاها، فأنشدها، كما بلغ إلى قوله: ولم أرَ قبل جِذْعك قطُّ جِذعًا … البيت، قام ابن عَبَّاد قائمًا، واعتنقه، وقبَّل فاه، ثم خَلَع عليه، وكتب له كتابًا إلى عضد الدولة بالإحسان إليه، فلما دخل عليه قال: ما حَمَلَك على مَرْثِيَة عَدوي!؟ فقال: حقوقٌ سَلَفَتْ، وأيادٍ سَبَقَتْ، فجاشَ الحُزْنُ في قلبي.
وكان بين يَدي عَضُدِ الدولة شُموعٌ تُزْهِر فقال له: قل فيها شيئًا، فقال: [من المتقارب]
كأن الشُّموعَ وقد أظهَرَتْ … من النَّارِ في كلِّ رأسٍ سِنانا
أصابعُ أعدائكَ الخائفينَ … تَضَرَّعُ تَطلُبُ منك الأمانا
فرَضي عنه، وخلَع عليه، ووصَلَه ببَدْرَةٍ، وأعطاه فَرَسًا من مَراكبه.
وذكر هِلالُ بن الصَّابئ أن الأبيات ظهرت بعد موت عضد الدولة، وأن ابنَ بَقيَّةَ بقي مَصلوبًا على خَشَبته؛ إلى أن حُطَّ في أيَّام صَمْصام الدَّولة ودفن، والأوَّلى أصحّ.
(١) الأبيات في الكامل ٨/ ٦٩٠، ووفيات الأعيان ٥/ ١٢٠، ومختصر تاريخ دمشق ٦/ ٩٦، وتاريخ الإِسلام ٨/ ٢٧٩، والسير ١٦/ ٢٢١، والنجوم الزاهرة ٤/ ١٣٠.