فجاء الرِّكابيّ إليه، وأدَّى الرِّسالة، فخرج من العَسْكر بحيث يراه النَّاس، وتَرجَّل، وقبَّل الأرضَ مرارًا، ومَرَّغ خَدَّيه وقال: قل له: يَا مولاي، لو تقدَّم هذا القول منك لسارعت إلى أمرك، فالآن ليس إلَّا ما ترى، فأبلغَه ذلك، فأعاد الركابيَّ إليه وقال: قل له: يَقرُبُ مني بحيث أراه ويراني، فإن استَحْقَقْتُ منه أن يَضربَ وَجهي بالسيف فلْيَفْعل، فقال: قل لمولاي: ما كنتُ ممَّن أُشاهدُ طَلْعَتَه وأنابذُه الحرب، وقد خرج الأمرُ عن يدي.
ثم حمل على مَيسرة العزيز فهزمها، فأرسل العزيز إلى الميمنة فأمرها بالحَمْلَة، وكان هو في القلب، وحمل وعلى رأسه المظلَّة، فانهزم الهفتكين والقرمطي، وقُتل من أصحابهما نحو عشرين ألفًا، وقال: مَن جاءني بالهفتكين أو القرمطي فله مئة أَلْف دينار ..
وكان الهفتكين يميل إلى المُفَرِّج بن دَغْفَل بن الجرَّاح الطَّائيّ، وكان أمْرَدَ وَضيءَ الوجه، فاتَّفق أنَّ الهفتكين لما انهزم قَصدَ ساحلَ البحر ومعه ثلاثة أنفس وقد أجْهَدَه العَطَش، فلقيه المفرِّج في سَريَّةٍ من الخيل، وسقاه ماءً، فقال له: احملني إلى أهلك، فجاء به إلى قرية يقال لها: لُبْنى، فأجلسه هناك، ووَكَل به جماعة، وجاء إلى العزيز فتوثَّق منه في المال، ثم أخبره أن الهفتكين قد حَصَل في يده، ومضى، وجاء به، فأمر العزيز بأن يُضْرَب له نوبة من مَضاربه الخاص، وفَرش فيها فُرشه، وأَحضر جميع ما يحتاج إليه، وأنزله في المضرب، ولم يَشكّ أنَّه مَقتولٌ، وأمر بأصحابه الأُسَراء فضُربت لهم المضارب، وحُملت إليهم فنون الفُرُش والأطعمة، وبعث له العزيز دَسْتًا من دُسوته، فقام وقَتل الأرض، وبكى، وعَفَّر خَدَّيه في التُراب وقال: ما أستحقُّ إلَّا القتل، ولكن مولانا أبي إلَّا ما تقتضيه أعْرافُه الشَّريفة، ولم يَقْعُد في الدّست، وبعث له الخِلَع والثِّياب والتُّحَف مع الخدم، وأعلموه أن العزيزَ قد عَفى عنه.
فلما كان الليل جاء العزيزُ إلى مَضْرَبِه بنفسه، فقام وقبَّل الأرض، وحثا التُرابَ على رأسه، وجعل يَبكي ويَنتَحِب، فقال له العزيز: ما نَقمتُ عليك إلَّا كوني دعوتُك إلى مُشاهدتي؛ لعلك أن تَستحي مني، فأبيتَ، والآن فقد عَفوتُ عما جرى، ورَضيتُ عنك، وسوف تَرى ما أفعلُ معك.