وقلتُ لأيّامِ شرخ الشباب … إليَّ فهذا أوانُ الفَرَحْ
إذا بلغَ المرءُ آمالهُ … فليس له بعدها مُقتَرَحْ
وشرب إلى أن سكِرَ، ثم قال لغلمانه: غطُّوا المجلس لأصطبح في غدٍ عليه.
وقال لنُدمائه: باكِرونِي ولا تتأخَّروا. وقام إلى بيت منامه، وانصرف النُّدماءُ، ودعاه مؤيَّدُ الدولة في السَّحَر، فظَنَّ أنَّه لِمُهِمٍّ، فقبضَ عليه، وأنفذ إلى داره، فأخذ جميعَ ما فيها، وتطاولت به النَّكبة حتَّى مات فيها، ثم بعثَ مؤيَّدُ الدولة إلى أصبهان، فأحضر الصاحب بن عبَّاد، فاستَوْزَره، ثم وَزَر لأخيه فخرِ الدولة، وبقي في الوزارة ثمانيةَ عشر سنة وشهورًا، وفتح خمسين قلعة لفخر الدولة.
وكان الصاحبُ عالمًا بفنون العلوم، لم يُقارِبْه فيها وزير، وله التصانيف الحِسان، والنثرُ البالغ، وقد عاب المتنبي في مواضِعَ، وكانت كتُبُه تُحمل على أربع مئة جَمَل، وكان يُصنِّف في أسفاره، ومعه العلماء [والأدباء]، وكان يقول لهم: نحن في الليل إخوان، وأنا في النهار سلطان.
[وكان أبو منصور الثعالبي خصيصًا به، وله صنَّف فِقه اللغة وسرَّ العربية].
وسمع الصاحبُ الحديثَ وأملاه، ولمَّا عزم على الإملاء -وهو يومئذٍ في الوزارة- خرجَ مُطَيلَسًا مُتحنِّكًا (١) بزِيِّ أهل العلم، فقال: قد علمتُم قِدَمي في العلم. فأقرُّوا له بذلك، فقال: أنا متلبِّسٌ هذا الأمر، وجميع ما أنفقتُه من صغري إلى هذا الوقت من مال أبي وجدّي، ومع هذا فلا أخلو من تَبِعات أُشهِدُ اللهَ وأُشهِدُكم أني تائبٌ إلى الله تعالى من كلِّ ذنبٍ أذنبتُه. واتَّخذ لنفسه بيتًا، وسمَّاه بيت التوبة، ولبث أسبوعًا على ذلك، وأخذ خطوط الفقهاء بصحَّة توبته، وقعد للإملاء، وحضر خلقٌ عظيمٌ، حتَّى كان المستملي الواحدُ ينضاف إليه ستة، وكان ممَّن كتب عنه القاضي عبد الجبار.
(١) مُطَيلسًا: يلبس الطيلسان من الثياب، ومُتحنكًا: أي يُدير عمامته من تحتِ حَنكِه.