الماءَ أوحى الله إليها أن اركدي فركدت؛ والسفنُ تمرُّ يمينًا وشمالًا، فقالوا: ما بال سفينتكم؟ قالوا: لا ندري، قال يونس: أنا أدري، إنَّ فيها عبدًا أبق من ربه، فلا تسير حتى تلقوه في الماء، قالوا: ومن هو؟ قال: أنا، وعرفوه، قالوا: أمَّا أنت فليس نلقيك؛ والله ما نرجو النجاةَ إلَّا بك. قال: فاقترعُوا، فمن وقعت عليه القرعة فألقوه في الماء، فاقترعوا، فقرعهم يونس ﵇، فأَبَوْا أن يلقوه، وأقرع القومَ ثانيًا وثالثًا، فقرعهم يونس، فقال: يا قوم، اطرحوني في الماء وانجوا، فقام القوم فاحتملوه شبه المشفقين عليه، فقال: ايتوا بي صَدْرَ السفينة، ففعلوا، وإذا بالحوت فاتح فاه، فقال: ردُّوني إلى مؤخَّر السفينة، ففعلوا، واستقبله الحوت فاتحًا فاه، فلما رأى جوفه وهوله قال: يا قوم، ردُّوني إلى وسط السفينة، فردُّوه، فاستقبله الحوت، فقال: ردُّوني إلى الجانب الآخر، فاستقبله الحوت فاتحًا فاه ليأخذه، فقال: ألقوني وانجوا؛ فلا منجى من الله إلا إليه. فطرحوه، فالتقمه الحوت قبل أن يبلغ الماء، وانطلق به الحوت إلى مسكنه من البحر، ثم انطلق به إلى قرار الأرض، فطاف به أربعين يومًا، فسمع يونس تسبيح الحصى والحيتان، فجعل يسبِّح ويهلِّل ويقدِّس، وكان يقول في دعائه: إلهي وسيدي ومولاي، في السماء مسكنك، وفي الأرض قدرتك وعجائبك، سيدي، من الجبال أهبطتني، وفي البلاد سيَّرتني، وفي الظلمات الثلاث حبستني. إلهي، سجنتني بسجن لم يسكن به أحد قبلي. إلهي، عاقبتني بعقوبة لم يُعاقب بها أحد قبلي. فلما تم له أربعين يومًا وأصابه الغمُّ ﴿فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ﴾ [الأنبياء: ٨٧].
قال: فسمعَتْ الملائكة بكاءه، وعرفوا صوته، فبكت الملائكة وبكت السماوات والأرض والحيتان لبكائه، فقال الجبَّار: يا ملائكتي، ما لي أراكم تبكون؟ قالوا: ربَّنا، صوتٌ حزين ضعيف نعرفه في مكان غريب، قال: ذاك عبدي يونس، عصاني فحبسته في بطن الحوت في البحر، فقالوا: يا ربَّنا، العبد الصالح الذي كان يصعدُ له في كلِّ يومٍ وليلة العمل الصالح الكثير؟ وقال ابن عباس: قال الله تعالى: نعم. قال: فشفعت له الملائكة والسماوات والأرض، فبعث الله جبريل ﵇، فقال: انطلق إلى الحوت الذي حبستُ يونسَ في بطنه، فقل له: إنَّ لي في عبدي حاجةً،