الفضلَ بالهزيمة، ويُطبقوا عليهم، فانعكس الحالُ، وانهزمَتِ الرجَّالةُ الكُمناء لمَّا رأوا الفرسان قد انهزموا ولم يعلموا، فحمل الفضل فمزَّقهم كلَّ مُمزَّق، وبقي أبو رِكْوة في بني قُرَّة، فانهزموا به إلى حُلَلِهم، ولعب السيفُ في الباقين، فقتلوا منهم ثلاثين ألفًا، ولمَّا وصل الحَرْدَب وبنو قُرَّة إلى حُلَلِهم قالوا لأبي رِكْوة: قد قاتَلْنا معكَ، وبذَلْنا نفوسَنا، ولم يبقَ فينا بعدَها فضلٌ، وما دمتَ بيننا فنحن مؤاخَذون بِكَ، فاختَرْ أيَّ مكانٍ شئتَ فخُذْ لنفسِكَ. فقال: ابعثا معي فارسين يوصلاني إلى بلاد النُّوبة، فإنَّ بيني وبين مَلِكها عهدًا، فبعثوا معه فارسين، وانهزموا هم إلى بَرْقة.
وكتب الفضلُ إلى الحاكم بالفتح، وبعث بثلاثين ألف رأس من رؤوس القتلى، وضُرِبَتِ البشائرُ بالقاهرة، وزُيِّنتْ زينةً عظيمة، وأقام الفضلُ في موضعه، وأنفذَ في الطلبِ وراءَ أبي رِكْوة، وكان وصولُه النُّوبةَ وقد ماتَ الملكُ الذي كان مُعاهِدَه، وقام ابنُه، فقال الرسل له: هذا طلبة الحاكم، وبينه وبينكم عهود، فإن لم تُسلِموه إليه، وإلَّا قصدكم العسكر. فسَلَّمه إليهم، وأبو رِكْوة يشتمُ الرسل، ويلعنُ الحاكم، وساروا به إلى الفضل، فخرج إليه الفضل، وقَبَّل يده، وأنزله في خيمتِه، وأعظمه تأنيسًا له؛ لئلَّا يقتل نفسَه، وكان كلَّ يومٍ يدخل عليه ويُقبِّل يَدَه، ويقول: كيفَ مولاي؟ فيقول: بخير. ثمَّ يأكل معه، وسارَ به إلى الجِيزة ورسلُ الحاكم في كلِّ ساعةٍ ترِدُ على الفضل بالهدايا والتُّحف، وجاءه رسول الحاكم يأمره بعبور مصر، ويسير بالعساكر إلى القاهرة على تعبئةِ ورَسَمَ أن يُشْهَر أبو رِكْوة على جمل ويُطاف به، فدخل عليه خَتَكين - وكان صاحب دواة عضد الدولة - فقال له أبو رِكْوة: قد عرفتُ عقلَكَ وسدادَكَ، وأُريد منكَ أن تُوصل لي ورقةً إلى مولانا الحاكم. فقال: هاتِ. فكتب يقول: يا مولانا، الذنوبُ عظيمةٌ، وأعظمُ منها عفوُكَ، وقد أسأتُ وما ظلمتُ إلا نفسي، وعفوُكَ يسعُني، وذنبي أَوْبَقَني. ثمَّ كتب:[من الطويل]
فررتُ ولم يُغْنِ الفِرارُ ومَنْ يَكُنْ … مع الله لم يُعجِزْه في الأرضِ هارِبُ
وواللهِ ما كان الفِرارُ لحاجةٍ … سوى فَزَع الموتِ الذي أنا شارِبُ
وقَدْ قادني جُرْمي إليكَ بِرُمَّتي … كما اجترَّ مَيتًا في رحى الحربِ سالِبُ