للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

رأى يونس وجاء على ذلك ببرهان خلعتُ له مُلكي وجعلته مكاني ولحقتُ بيونس. ولا أقدرُ أن أبلغه ذلك إلا بحجَّة، فإني أخاف أن يقول الملك: إنما قلت هذا طمعًا في ملكي، وليس أحد يكذب كذبة إلا قتلوه. فقال يونس: تشهد لك الشاة وهذه الصخرة التي كان مستندًا إليها. وقال يونس: تشهدا له. فانطلق إليهم الراعي فأخبرهم فكذبوه، فقال: الشاة تشهد لي والصخرة، فشهدتا له فصدقوه وقالوا: أنت خيرنا وسيدنا حيث رأيت يونس، وملَّكوه عليهم فدبّر أمرهم أربعين سنة وقيل: سبعين سنة، وكان آخر العهد بيونس (١).

وفي رواية: أن الغلام أتى الملك فأخبره فأمر بقتله فقال: إنَّ لي بيِّنة فأَرسلوا معي فأَرسَلوا معه فشهدت له الشاة والصخرة. قال ابن مسعود: فقال له الملك: أنت أحقُّ بهذا الملك مني. وقام وأخذه بيده وأقعده موضعه، فأقام لهم الغلام أمرهم سبعين سنة (٢).

فإن قيل: فما معنى قوله تعالى: ﴿وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا﴾ [الأنبياء: ٨٧] والمغاضبة إنما تكون بين اثنين، لأنها مفاعلة كالمناظرة والمجادلة والمقاتلة، والله تعالى لا مفاعلة بينه وبين عباده؟ والجواب من وجوه:

أحدها: ما قاله الضحاك: أنه ذهب مغاضبًا لقومه. وهي رواية العوفي عن إبن عباس (٣). وهو ما ذكرنا أنَّ الله أمر شَعْيا أن يأمر حِزقيا أن يبعث نبيًا ليخلص بني إسرائيل، وأنَّ يونس خرج على كرهٍ منه، وأنه ألقى نفسه في بحر الروم.

والثاني: أنه إنما ذهب مغاضبًا لربِّه حين كُشِفَ عنهم العذاب بعدما أوعدهم به، لأنه كَرِه أن يكون بين قوم قد جرَّبوا عليه الخلف فيما وعدهم به، واستحيا منهم ولم يعلم السبب الذي رفع الله به عنهم العذاب والهلاك، فخرج مغاضبًا لربه وقال: والله لا أرجع إليهم كذَّابًا أَبدًا. وفي بعض الأخبار: أنهما كانوا يقتلون من جرَّبوا عليه الكذب، فلما لم يأتهم العذاب في الموعد الذى وعدهم خشي أن يقتلوه، قاله وهب (٤).


(١) انظر "التوابين" ٣٣.
(٢) انظر "عرائس المجالس" ص ٤١٤.
(٣) انظر "تفسير البغوي" ص ٨٥١، و "زاد المسير" ٥/ ٣٨١.
(٤) انظر "تفسير البغوي" ص ٨٥١.