عظيمةً، ولمَّا قَرُبَ منها راسل الشرابيَّ صاحِبَها، فأخرج إليه الجندَ والحاشيةَ، ولم يخْرُجْ إليه بنفسه؛ مراعاةً للسلطان، وأنزله معه في داره، فقيل له: قد علمتَ حال هذا الرجلِ ومكانتَه، وقد عزَّ (١) عليه كونُكَ ما استقبلْتَه، ومن المروءةِ أن تنهض إلى الحُجرة التي أنزلْتَه فيها وتقضي حقَّه. فقام، ودخل إليه، فجلس قليلًا وخرج، وإذا بحاجبٍ قد ورَدَ من بغداد في معناه، فقال: سلطانُ الدولةِ والأميرُ وأبو الخطابِ والوزيرُ يقولون: قد انحدرَ ابنُ سهلان من الأنبار طالبًا للبَطيحَة، فإن حصل عندك فتحتاط عليه إلى أن ينفذ من يتسَلَّمه، وإن انحدرَ إلى البصرة فأقِمْ له الرَّصَدَ في الطريق، واجتهِدْ في تحصيله، وكانت الرسالةُ مع بختيار حاجبِ الوزير، وهؤلاء المذكورون يُسمَّون المدبِّرون للدولة، فقال لبختيار: قد وصل في هذه الساعة وأنا أنظرُ في أمره.
وانصرف بختيار من حضرته، فقال الشرابي لأصحابه: قد تحيَّرتُ في أمره، إن أسلمتُه كان فضيحةً وقباحةً، وإنْ لم أُسْلِمْه عاديتُ سلطانَ الدولة والمدبِّرين. فلمَّا كان بعدَ أيامٍ وَرَدَ تكين من بغداد رسولًا عن الملك والمدبِّرين والأتراك يطلبون ابنَ سهلان، فتحيَّر الشرابيُّ، وجمع إليه وجوه البطائحيين، وقال: ما ترون؟ فقالوا: قد علمتَ أنَّ ناموس بلدنا هذا أن من لجأ إليه واستجار به يُجار، وما جرتِ العادةُ بتسليم مَنْ يحصل عندنا، لا في قديم الزمان ولا في حديثه، فدافع عن الرجل، وعرف أبو محمد، فراسله، وقوَّى نفسَه، وعقَدَ لابنه على ابنتِه سرًّا، وتحالفا وتعاهدا، وطلب من الشرابي أن يجمعَ بينه وبين تَكين، فأرسل به إليه، فلمَّا دخل عليه قبَّل الأرضَ كما كان يفعل، وابنُ سهلان صاحبُ الأمر، فلاطفَه ابنُ سهلان، وقال: قد عرفتَ إحساني إليك، فأُريد [أن] تُقبِّلَ الأرضَ عنِّي بين يدي الملك، وتقول: أنا ذلكَ العبدُ الذي لا يتغيَّر، وواللهِ ما اعتقدتُ سوءًا قطُّ، لا لكَ ولا لغلمان الأتراك، ولستُ أعرف للنُّفرة مني سببًا، إلا قولَ الأعداء وتخرُّصَهم. ثمَّ استماله ولاطفَه، فقام يمين وقد صارَ معه بعد أن كان عليه، وردَّ الشرابيُّ رسالةً إلى بغداد يقول: قد عُرِفَ عادةُ بلدنا في إجارة مَنْ استجار بنا، وما يُمكننا نقضُ هذه السُّنَّة، فإن كان الغرضُ حِفْظَ هذا الرجل ومنعَه من الإفساد فهو في داري كالمعتقل، وما أُمَكِّنُه من أمرٍ تخافه منه.