فاستطعم، فأطعموه كُسيراتٍ، فأخذها وعاد إلى الجامع، فتعلَّق به الفرَّاش وقال: أما تستحي، يُنفِذُ إليك خليفةُ الله في أرضه طعامًا حلالًا فتردُّه، وتخرج فتستَطْعِمُ من الأبواب؟ فقال: ما ردَدْتُه إلَّا لأنَّك عَرَضْتَه عليَّ قبل الإفطار، وكنتُ غيرَ محتاجٍ إليه حينئذٍ، فلمَّا جاء وقتُ الإفطار استطعَمْتُ وقتَ الحاجة. فعاد الفرَّاشُ وأخبر القادرَ، فبكى، وقال: راعِ مثلَ هذا، واغتنِمْ أجرَه، وأقِمْ إلى وقت الإفطار، وادفَعْ إليه ما يُفطِرُ عليه.
وقال أبو الحسن الأبهري: بعثني بهاءُ الدولة من الأهواز برسالة إلى القادر بالله، فلمَّا أذن لي في الدخول عليه، سمعتُه ينشد:[من الكامل]
سبقَ القضاءُ بكُلِّ ما هو كائنُ … واللهُ يا هذا لرزقِكَ ضامِنُ
تَعنى بما تُكفى وتترُكُ ما بِهِ … تَغْنَى كانَّك للحوادثِ آمِنُ
أوَ ما ترى الدنيا ومصرعَ أهلِها … فاعمَلْ ليومِ فِراقِها يا خائِنُ
واعلَمْ بأنَّكَ لا أبا لَكَ في الَّذي … أصبحْتَ تملِكُهُ لغيرِكَ خازِنُ
يا عامر الدُّنيا أتعمُرُ منزلًا … لم يَبْقَ فيه مع المنيَّةِ ساكِنُ
إنَّ المنيةَ لا تؤامِرُ مَنْ أتَتْ … في نفسِهِ يومًا ولا تستأذِنُ (١)
فقلتُ: الحمد لله الَّذي وفَّقَ أميرَ المؤمنين لإنشادِ مثلِ هذه الأبيات، وتدبُّرِ معانيها، والعملِ بمضمونها. فقال: يا أبا الحسن بل لله مِنَّةٌ علينا إذ ألهَمَنا بذِكْرِه، ووفَّقَنا لِشُكرِه، ألم تسمع قول الحسنِ البصريِّ وقد ذُكِرَ عنده أهل المعاصي، فقال: هانوا عليه فعصَوه، ولو عزُّوا عليه لعصَمَهُم.
ذكر وفاته:
تُوفِّي القادر [بالله] ليلةَ الاثنين الحادي عشر من ذي الحجَّة، ودُفِنَ ليلة الثلاثاء بين المغرب والعشاء في دار الخلافة بعد أن صلَّى عليه ابنُه القائمُ بأمر الله ظاهرًا، وعامَّةُ الناس وراءه، وكبَّر عليه أربعًا، ولم يزَلْ مدفونًا في الدار حتَّى نُقِلَ تابوتُه، وحُمِلَ في الطيَّار
(١) قائل هذه الأبيات أبو العتاهية، وهي في ديوانه ص ٣٨١ - ٣٨٢.