للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

ما قُهِرَ على رأيٍ، ولا كُسِرَ له غرض، وكان يتَّجِر وينفق على أشياخ الحنابلة الذين ليس لهم بالسلطان وصلة، واختصَّ بأصحاب عبد الصمد الزاهد، وهم أئمة المساجد والزُّهَّاد، واستبعد الوُعَّاظ، وأكرم بني هاشم والأشراف بالعطاء الجزيل، وأنعَمَ على العرب والعجم والتركمان والغلمان، واحتاج إلى جاهه الخلفاءُ والملوك، وما كان يُسمع منه كلمةٌ تدلُّ على فعل قبيحٍ فعلَه، ولا إنعامٍ أسداه، وصمد لحوائج الناس، وكان يُعظِّم من يقصِده في حاجةٍ أكثرَ من تعظيم مَنْ يقصِده في غير حاجة، ولمَّا استولى البساسيريُّ على بغداد وانحدر إلى واسط أخذ [ابنَ يوسف] (١) معه فنزل على طحَّان، فلمَّا رحل عنه أعطاه شيئًا، وانقضت مدة وإذا بالطحان قد قدم بغداد هاربًا من ديونٍ لَزِمَتْه، فدخل عليه فأكرمه وأنزله في حجرة وكساه، وأمر بعض أصحابه أن يسأله عن سبب مقدمه، فقال: هربتُ من ديون الناس عليَّ وليس لي قدرةٌ على وفائها. فأرسل عبد الملك سفينةً وحمل فيها من الفاكهة والكسوة والتُّحف شيئًا كثيرًا، وأعطى لمن يُسفِّره بها مئتي دينار، وقال: سَلْ عن بيت فلان الطحان، وأوصِلْ ما في هذه السفينة إلى أهله، وسَلْ عن غرمائه وصالحهم بهذه المئتي دينار، وخُذْ منهم الوثائق. فمضى الرجل، وفعل ما أمره، وعاد وظنَّ الطحَّان أنه قد نسيه، فأحضره وقال: ما سببُ قدومك؟ فأخبره، فقال: خُذْ هذه الوثائق. وأعطاه مئة دينار.

وكان الخليفة يُحِبُّه ويصدر عن رأيه، ويعتقد فيه اعتقادًا جميلًا، وماتت له ابنةٌ وكانت زوجةَ أبي عبد الله بن جرد، فتَبِعها الأكابر والقضاة والأشراف، ومشوا في جنازتها، وجاءت صلف القَهرمانة بطعام وشراب، وكان مارستان العَضُدي قد خرب ودثر، فأحياه، واستخدم فيه الأطباء، وأوقف عليه، وتُوفِّي يوم الثلاثاء بداره بباب المراتب، ودُفن يوم الأربعاء رابع عشر مُحرَّم عند أبيه وجده مجاورًا لقبر الإمام أحمد رحمة الله عليه، وغسَّله القاضي حسين بن المهتدي، وصلَّى عليه ابنُه أبو محمد الحسن داخل مقصورة جامع الخليفة، وتبعه مئةُ ألف رجل أو يزيدون سوى النساء، وغُلِّقت أسواق بغداد، وضجَّ الناس بالبكاء عليه؛ لأنه كان يُحسِن إليهم، فكم كسا يتيمًا؟ وكم زوَّج أرملةً؟ وكم بني مسجدًا وقنطرةً؟ وتولَّى المارستان وليس فيه طبيبٌ


(١) ما بين حاصرتين من (م)، والمنتظم ١٦/ ١٠٨.