للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الاعتزال والفلسفة والمنطق، فاضطرَّه أهلُ السنَّة إلى أن لزم بيته خمسين سنة لا يتجاسر أن يظهر.

ولم يكن عنده من الحديث سوى حديث واحد لم يرو غيرَه، سمعه من شيخه أبي الحسين البصري، ولم يرو أيضًا غيره، وهو قوله : "إذا لم تستَحِ فاصنَعْ ما شئت"، فكأنهما خوطبا بهذا الحديث، كأنهما لم يستحيا من بدعتهما التي خالفا بها السُّنَّة وعارضاها بها، ومن فعل ذلك فما استحى.

ولهذا الحديث قصة، وذلك لأنَّ القَعْنبي لم يسمع من شعبة غيره؛ لأنَّه قدم البصرة فصادف مجلس شعبة قد انقضى، ومضى إلى منزله، فوجد الباب مفتوحًا، وشعبة على البالوعة، فهجم عليه من غير استئذان وقال: أنا غريب، وقد قصدتُكَ من بلد بعيد لتُحدِّثني، فاستعظم ذلك شعبة وقال: دخلتَ منزلي بغير إذني، وتُكلِّمني وأنا على مثل هذه الحال؟ حدَّثنا منصور، عن رِبْعي بن حِراش، عن أبي مسعود ، عن النَّبيِّ أنَّه قال: "إذا لم تستحِ فاصنَعْ ما شئت"، ثم قال: واللهِ لا حدَّثتُكَ غيرَه، ولا حدَّثْتُ أقوامًا أنتَ منهم.

وقيل: إنَّ القَعنْبي كان يشرب النبيذ، ويصحب الأحداث، فجلس يومًا على بابه، فمرَّ شعبةُ والنَّاس خلفه يهرعون، فقال: من هذا؟ قيل: شعبة. قال: وما شعبة؟ قيل: مُحدِّث. فقام إليه وعليه إزار أحمر، فقال له: حدِّثني. فقال: ما أنتَ من أصحاب الحديث. فشهر سِكِّينه وقال: أتُحدِّثني أو أجرحك؟ فقال: حدَّثنا منصور، وذكر الحديث، فرمى سِكِّينه، ورجع إلى منزله فأهرق ما عنده، ومضى إلى المدينة، ولزم مالك بن أنس، ثم رجع إلى البصرة وقد مات شعبة، فما سمع منه غير هذا الحديث، وهو حديثٌ صحيحٌ اتَّفق مسلم والبخاري على إخراجه (١)، ولفظ الصَّحيح: "إنَّ ممَّا أدرك النَّاس من كلام النبوة الأولى: إذا لم تستحِ فاصنَعْ ما شئت".

واسم القَعْنبي عبد الله بن مَسْلَمة بن قَعْنَب، وكنيته أبو عبد الرحمن.


(١) الحديث تفرد بإخراجه البُخاريّ (٣٤٨٣)، ولم يخرِّجه مسلم!