ولد بالدامغان في ربيع الآخر سنة ثمان وتسعين وثلاث مئة، وتفقَّه ببلده، ثم قدم بغداد في رمضان سنة تسع عشرة، وتفقَّه على الصَّيمري والقَدُوري، وسمع منهما الحديث، وبرع في الفقه، وخُصَّ بالفضل الوافر، والتواضع الزائد، فارتفع وشيوخه أحياء، وانتهت إليه رئاسة أصحاب أبي حنيفة.
وكان فصيحَ العبارة، مليحَ الإشارة، غزيرَ العلم، سهلَ الأخلاق، وعانى من الفقر في بدايته شدة، فربما كان يستضيء بسراج حارس الدرب للمطالعة من حرصه.
وفي ربيع الأوَّل سنة إحدى وأربعين شهد عند أبي عبد الله بن ماكولا قاضي القضاة، فلما مات ابن ماكولا قال القائم بأمر الله للشيخ الأجلِّ أبي منصور بن يوسف: قد كان هذا الرجل قاضيًا حسنًا نزهًا، ولكنه كان خاليًا من العلم، ونريد عالمًا قاضيًا ديِّنًا، فعلم ابنُ يوسف أن عميد الملك هو المستولي على الدولة، وهو شديدُ التعصب للحنفية، فأراد أن يتقرَّب إليه، فأشار بابن الدامغاني، فولي قضاء القضاة يوم الأربعاء عاشر ذي القعدة سنة سبع وأربعين، وخلع الخليفة عليه، وقُرئ عهدُه وقصد خدمة طُغْرُلبَك، فأعطاه دَسْتَ ثياب وبغلة، فاستمرت ولايته ثلاثين سنة، ونظر في الديوان نيابة عن الوزارة مرتين؛ مرةً للقائم، ومرةً للمقتدي.
وقال: كنتُ آخذ الجزء في كُمِّي وأنزل أيَّام الحر إلى دجلة أتفيَّأ ظلال المشتيات وأُعيده، فلا أقوم إلَّا وقد حفظتُه، فانتهى بي السعي يومًا إلى مشتيات الحريم الطاهري، فجلستُ أقرأ، وإذا قد اطَّلع شيخٌ حسنُ الهيئة، وجاءني خادمٌ بعد ساعة فأقامني وأدخلني إلى دار كبيرة، وعلى بابها حواشٍ وخدم، وإذا بالشَّيخ جالسٌ، فسلَّمتُ عليه، فردَّ واستدناني ورحَّبَ بي، وكان عليَّ قميصٌ خامٌ وَسِخٌ، فسألني عن بلدي، فقلت: الدَّامَغان. فقال: ما تقرأ؟ قلت: مذهب أبي حنيفة. قال: من أين مؤنتك؟ فقلت: لا مؤنة لي. فسألني عن مسائل فأجبتُه، فقال: تجيء كلَّ خميس إلى هنا. ورمى إليَّ قرطاسًا مكتوبٌ فيه شيئًا بخطِّه، وقال: تعرضُ هذا على مَنْ فيه اسمُه، وتأخذ ما يعطيك، فأخذتُه ودعوتُ له وخرجتُ، وإذا على الباب رجل جالس، فقلت له: من صاحب هذه الدار؟ فقال: ابن المقتدر. فأعطيتُه الكتاب، فقال: نَعمْ، هذا