للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

ثم قال: ما منزلةُ الملوك عندكم؟ قلت: لا أدري. قال الملك: أما نحن فنعدُّ الملوك خمسة: فأوسعُهم ملكًا ملك العراق؛ لأنه وسط الدنيا والملوك به محدقة، وبعده ملِكُنا، وبعد ملكنا ملكُ السِّباع، وهو ملك الترك الذي يلينا وهم سباع الإنس، وبعده ملك الفِيَلة وهو ملك الهند والحكمة، وبعده ملك الروم، وهو ملك الرجال.

ثم قال: أتعرف صاحبَك -يعني النبي ﷺ إن رأيته؟ قال الرجل: فقلت: كيف ترينيه وهو عند الله تعالى؟ فقال: إنما أردتُ صورتَه. ثم أخرج لي دُرْجًا فيه صفةُ الأنبياء وعلى صورة كلّ نبيٍّ اسمُه، وإذا نوح ﵇ في سفينة، فقلت: الحمد لله الذي أغرق أهل الأرض ونجاه، فضحك وقال: لا نعرف غرقَ الأرض، ولا وصل إلينا ولا إلى الهند والسِّند، ولا نقله إلينا أسلافُنا. قال: ورأيتُ موسى ﵇ وبيده العصا، وعيسى ﵇ على حمارٍ، ونبينا ﷺ (١) على جمل، وعند كلِّ نبيٍّ نسبُه وعمرُه وبلدُه وسيرتُه. ورأيتُ حول نبينا ﷺ أصحابه وفي أوساطهم حبال الليف، وقد علَّقوا فيها المساويك، وفي أرجلهم نِعالٌ من جلود الإبل، فبكيت، فقال: ما يبكيك؟ فلقد ملك نبيكم أجلَّ الممالك، غير أنه لم يُعاين ذلك، وإنما عاينه مَن بعده.

ثم قال: ما تقولون في عُمر الدنيا؟ فقلت: قد اختلف الناس في ذلك، فمن قائل: سبعة آلاف سنة، وقائل: ستة آلاف. فقال: عمَّن تنقل هذا، عن نبيك؟ فغلطت وقلت: نعم. فضحك ضحكًا عاليًا، وضحك وزيرُه أيضًا، وقال: ما أحسب نبيَّكم قال هذا، قلت: بلى، فرأيت أثر الكآبة على وجهه، وقال: ميِّز كلامك، فإن الملوك لا يُخاطَبون إلا عن تحقيق، وما تقولُه الأنبياء فمُسلَّم لهم لا يُختَلَف فيه، وهذا مُختلَف فيه، فإياك أن تحكيَ عن نبيِّك مثلَ هذا، فإنه لا يقوله.

قلت: لله درُّ هذا الملك، ما كان أعقله وأبصره بحقائق الأشياء، فإنه لم يَثبُت عن نبينا ﷺ في هذا الباب شيء، وقد ذكرناه في خطبة الكتاب (٢)، وإنما الجاهل الذي هو من ولد هبَّار الذي عَرَّض نبيَّنا ﷺ لمثل هذا، ولكن الله أنطق الملكَ بالحق، معجزةً لنبينا ﷺ.


(١) في (خ) زيادة: وزاده فضلًا وشرفًا إلى يوم القيامة.
(٢) في فصل انقضاء مدة العالم، وقد ذكر المسعودي ١/ ٣١٢ - ٣٢١ هذه القصة مطولة.