للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وأزهر أنوارها بنور مكاشفته، ونسم عليها نسيمَ مشاهدته، حتَّى تلألأت بأزهارِ أنوارِ أسرارِ الحقائق (١)، وتشعشعت بلوامع جوامع الدقائق، فاخضرَّت بها أوراق أفنان أُنس الغُيوب، وأينعت بها مشاهدة المحبوب، وحلُّوا من منازل القرب بأمرع جناب، فطوبى لهم، ثم طوبى لهم وحسن مآب، أحمدُه على الهداية، وأشكره على العناية، وأسأله سلوكَ سبل الهدى إلى منازل التوفيق، وتبَوُّأَ مجالس الرضا على مناصب التحقيق، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادةَ مُحِبٍّ مُذْعِنٍ مُقِرٍّ مفتقر، يسكن قائلها في مقعد صدق عند مليك مقتدر، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، الَّذي نزَّهه عن بوائق الدنيا، وشرح صدره بالوصول إلى الأخرى، واختاره لمحبته وارتضاه، وألقى إليه مقاليد شرعه وحباه، فصلَّى الله عليه ما أورق عود، ورسا عمود.

وبعد، فإنَّ أرقَّ الخطاب وقعًا، وأدقَّ الكلام وضعًا، ما صدر عن صحيح صفاء القلوب، وظهر عن صدر أوصافِ المُحِبُّ والمحبوب؛ لأن الأشجان تُملي على البنان بيانَه، والدموعُ تُمِدُّ المِدادَ ألوانَه، فتُهيِّج في عيون القلوب أرواح العشاق، ويهيم في بيداء الهوى ارتياح المشتاق، كما حُكي أن بعض المشايخ نزل في سفينة في دجلة ليعبر إلى الجانب الشرقي، وهو يشكو إلى أصحابه عجزه عن أوقات أوراده وأسفاره، ويبكي شوقًا إلى ما مضى من طيب أوقاته وأوطاره، فمرت به السفينة تحت قصر من بعض القصور، فسمع منه منشدًا يقول: [من المتقارب]

حَمامَ الأراكِ ألا خبِّرينا … لمن تهتِفينَ ومن تندُبينا

فقد هِجْتِ وَيْحَكِ هذي القلوب … وأذرفتِ عينيَ ماءً مَعينا

تعالي نُقِمْ مأتمًا للفراق … ونندُبُ أحبابَنا الظاعنينا

ونُسعِدْك بالنَّوحِ كي تُسعدينا … كذاك الحزينُ يواسي الحزينا

فقام الشيخ يبكي ويكرر الأبيات، ثم شهق شهقةً ومات، فلهذه الإشارات نظمت الواسطات لجماعة المُحِبِّين، وأوضحت فيها منازل المتيَّمين، كما قال إبراهيم الخوَّاص: إن هذا العلم لا يصلح إلا لمن يُعبِّر عن وَجْدِه، ويُخبر عن نَعْتِه، وينطق عن فِعْلِهِ، ويتكلَّم عن صفاء سِرِّه، وقد اشتمل كتابي هذا على أوصاف العارفين،


(١) العبارة في (خ): حتى تلألات أنوارها بنور مكاشفته بأسرار أنوارها الحقائق، والمثبت من (ب).