فلما وصلت الهدية إلى الإسكندر مع خواص الملك، أكرمهم وأحسن إليهم، وشاهد الجارية فحار في حُسنها، وأكرم الطبيب، وأنزل الفيلسوف قريبًا منه وامتحنه، فأرسل إليه قدحًا مملوءًا سمنًا لا يسع شيئًا آخر، فغرز الفيلسوف فيه إبرًا وردَّه، فأمر الإسكندر بسَبْك تلك الإبرِ كُرةً مدوَّرة متساويةَ الأجزاء، وردَّها إلى الفيلسوف، فأمر الفيلسوفُ بسَبْكها مرآةً صقيلةً وردَّها إلى الإسكندر، فأعادها إليه، فدعا الفيلسوفُ بطَشْت فتركها فيه، وأمر بصبِّ الماء عليها، ثم عَمِل منها مشربةً وجعلها في الماء فطَفَت، وأعادها إلى الإسكندر، فملأها ترابًا وردَّها إلى الفيلسوف، فلما رآها بكى وتغيَّرت أوصافُه، وردَّها، وجعل يبكي ويقول: ويحَكِ يا نفسُ، ما الذي قَذَف بك في هذه الظُّلمة؟ ألست إذا كنتِ تسرحين في النُّور، وتَمْرَحين في العلوِّ، ثم أُنزلت إلى العالم المظلم، عالم الكون والفساد، أين مصادرك الطيبة، ومواردك اللذيذة؟ حللتِ بين السِّباع الضَّارية، والأفاعي المهلكة، لا تشاهدين إلا غافلًا، ولا تُعاشرين إلا جاهلًا، وذكر كلامًا طويلًا.
وبلغ الإسكندر، ففهم أنه أشار إلى نقل النفوس من العالم العلوي إلى العالم السفلي، فاستدعاه، فرآه حسن الصورة، مشوق اللون، فقال: ما معنى غرز الإبر في السَّمْن؟ فقال: فهمتُ من إرسال القدح أنك تقول: قد امتلأ قلبي بالحكمة كما مُلئ هذا القَدَحُ، فليس فيه مُستزاد، فأخبرتك أن حكمتي تزيد على حكمتك، وتدخل فيها دخول الإبر في السَّمن.
قال: فلم عملت الإبر مرآةً؟ قال: لأني علمتُ أن قلبك قد قسا من سَفْك الدماء، وسياسة العالم، فأريتُك أفعالَك فيها. قال: فما الكرةُ؟ قال: الدنيا. قال: فما بالُ المشربة؟ قال: هي حبُّ الدنيا، تُشربُ ولا تُشْبعُ. قال: فلم طَفَت؟ قال: فلم يَطفو الأجل؟ قال: فما بالُ التراب؟ قال: فهمتُ أنك تقول: ما بقي غير النزول فيه، ومفارقة النفس الناطقة هذا الجسد، وذكر كلامًا طويلًا.
فأعجب به الإسكندر، ودفع له أموالًا جليلة فلم يقبلها، وقال: لو أردت المال ما آثرتُ عليه العلم، ولست أَدخِل على علمي ما يُنافيه، وليس بعاقلٍ من خدم غير ذاته، واستعمل ما لا يصلح نفسه، والذي يصلحها صِقالُها بالحكمة، ورَدْعُها عن تناول