للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وزر للمسترشد ولمسعود، وكان مهيبًا عاقلًا، فاضلًا، جَوَادًا، وهو كان السبب في عمل الحريري للمقامات التي أنشأها، فحكى أبو القاسم عبد الله بن أبي محمد الحريري: أَنَّ والده كان جالسًا في مسجده ببني حرام -محلةٌ من محال البَصرة- إذ دَخَلَ شيخٌ ذو طِمرَين (١)، عليه أهبةُ السفَر، رَثُّ الثِّياب، فاستنطقه فإذا هو فصيحُ اللَّهْجة، حسنُ العبارة، فسأله: منْ أين الشيخ؟ فقال: من سَرُوج، فقال: وما الكُنْيةُ؟ قال: أبو زيد. قال: فعَمِلَ والدي المقامة الحَرَامية بعد قيامه من ذلك المجلس، واشْتَهر حديثُها، وبلغ أنوشروان، فطلبها، ووقَفَ عليها، وأمر أبي أن يضُمَّ إليها أُخرى، فعمل "المقامات".

قال: وغاب أبي عن أنوشروان مُدَّة، فاستبطاه، فكتَبَ إليه أبي: [من الطويل]

أَلا لَيتَ شِعري والأماني تَعِلَّةٌ … وإنْ كان فيها راحةٌ لأخي الكَرْبِ

أتدرون أَنِّي مُذْ تناءَتْ ديارُكُم … وشَطَّ اقترابي عن جنابِكُمُ الرحبِ

أُكابِدُ شوقًا ما يزالُ (٢) أوارُهُ (٣) … يُقَلِّبُني باللَّيلِ جَنْبًا على جَنْبِ

وأَذْكُرُ أيامَ التَّلاقي فأنْثَني … لتَذْكارِها بادي الأسى طائِرَ اللُّبِّ

ولي حَنَّةٌ فِي كلِّ وقتٍ إليكُمُ … ولا حَنَّةَ الصَّادي إلى البارِدِ العَذْبِ

فواللهِ لو أنِّي كتمتُ هواكُمُ … لما كان مكتومًا بشَرقٍ ولا غَربِ

ومما شجا قَلْبي المُعَنَّى وشَفَّهُ … رضاكم بإهمالِ الإجابةِ عن كُتْبي

وقد كنتُ لا أخشى مع الذَّنْبِ جَفْوةً … فقد صرتُ أَخْشاها وما ليَ مِنْ ذَنْبِ

ولمَّا سرى الرَّكْبُ العراقيُّ نحوكُم … وأَعوزَني المَسْرى إليكُم مع الرَّكْبِ

جعلتُ كتابي نائبًا عن صبابتي … ومَنْ لم يجدْ ماءً تيمَّمَ بالتُّربِ (٤)


(١) الطِّمْر: الثوب الخَلَق البالي. "اللسان" (طمر).
(٢) في (ع) و (ج): لا أزال، والمثبت من "المنتظم" و"الخريدة".
(٣) أي حرّه.
(٤) انظر الأبيات في "المنتظم": ١٠/ ٧٧ - ٧٨، وفي "الخريدة" قسم شعراء العراق: ج ٤ / م ٢/ ٦٠٤ - ٦٠٦، مع اختلاف في بعض الألفاظ.