للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

السُّلْطان مسعود بن محمد بن ملك شاه -وكان مسعود أحد الخَدَم الحبشيين الخِصيان الكبار من أُمراء دولته- من سوء أدبه في الحَضْرة، وخروجه عن معتاد الواجب، وانتشار مُفْسدي أصحابه، وكان وزير الخليفة إذ ذاك قوام الدِّين أبو القاسم عليُّ بنُ صدقة قد كتب عن الخليفة إلى السُّلْطان عِدَّة كُتُب يعتمد الإنكار على مسعود البلالي، فلم يرجع جواب، فلما قُلِّد عون الدين ابن هُبَيرة كتابة ديوان الزِّمام، خاطَبَ الخليفةَ في مكاتبة السُّلْطان مسعود بالقضية، فوقَّع إليه: قد كان الوزير كَتَبَ في ذلك عِدَّة كتب فلم يجيبوه. فراجع عون الدِّين في ذلك سؤاله إلى أن أُجيب، فكتب من إنشائه رسالةً طويلة، دعا للسُّلْطان، وأذكره ما كان أسلافه يعاملون الخلفاء به من حُسْن الطَّاعة والتأدُّب معهم، والذَّبِّ عنهم ممن يفتات عليهم، وشكا من مسعود البلالي، وأطال القول، وكان هذا في سنة اثنتين وأربعين في ربيع الآخر، فما مضى على هذا إلَّا قليل حتى عاد الجواب بالاعتذار والذَّمِّ لمسعود البلالي، والإنكار لما اعتمده، فاستبشر المقتفي بإشارة عون الدين، وعَظُمَ سروره بذلك، وعظم موقعه في قلبه، ولم يزل عنده مكينًا حتى استوزره.

وكان أيضًا من جملة أسباب وزارته [أنه] (١) في سنة ثلاث وأربعين وصل إلى بغداد صاحب اللِّحف (٢) ويلدكز السُّلْطاني، وقصداها في جموعٍ كثيرة، وصدر منهم فتن عظيمة، فشرع الوزير قوام الدِّين ابنُ صدقة في تدبير الحال، فأخفق مسعاه، فاستأذن عونُ الدِّين الخليفةَ في أمرهم، فأَذِنَ، فخاطب هؤلاء الخارجين عن الخليفة، وأحسن التَّدْبير في ذلك حتى كَفَّ شَرَّهم، ثم قوي عليهم حتى نهبت العامَّةُ أموالهم، وعند انقضاء هذا المهم استدعى الخليفة عون الدين بمطالعة على يد أميرين، فركب إلى دار الخلافة في جماعة، ولما وصل إلى باب الحجرة استدعي، فدخل، وقد جلس له المقتفي بمثمنة التَّاج، فقبَّلَ الأرض وجلس، وتحدَّثا ساعة بما لم يُحِطْ به غيرهما عِلْمًا، ثم خَرَجَ وقد جهِّز له التشريف على عادة الوزراء، فلبسه، ثم استدعي ثانية، فقبل الأرضَ، ودعا بدعاء أَعْجَبَ الخليفة، ثم أنشد: [من الطويل]

سأشكر عمرًا ما تراخَتْ منيَّتي … أياديَ لم تُمنن وإن هي جَلَّتِ

رأى خَلَّتي من حيثُ يخفى مكانُها … فكانت بمرأى منه حتى تجلَّتِ


(١) ما بين حاصرتين من "وفيات الأعيان": ٦/ ٢٣٢.
(٢) صقع من نواحي بغداد. "معجم البلدان": ٥/ ١٤.