للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

يوم جمعة، فشمَّته النَّاس حتى سُمِعَتْ في الجامع ضجَّةٌ عظيمة يقولون: يرحمك الله، ويرحم بك. وكان المستنجد بالله الخليفة في مقصورة الجامع، فقال: ما هذه الضَّجة؟ قيل له: قد عَطَسَ الشيخ عبد القادر. فهاله ذلك.

وقال الشيخ المعمَّر جرادة: ما رأتْ عيناي أَحْسَنَ خُلُقًا ولا أَوْسَعَ صَدْرًا، ولا أَكرمَ نفسًا، ولا أعطف قلبًا، ولا أحفظ عهدًا وودًّا من سيِّدنا الشيخ عبد القادر، ولقد كان مع جلالة قَدْره، وعلوِّ منزلته، وسَعَة عِلْمه يقف مع الصَّغير، ويوقِّر الكبير، ويبدأ بالسَّلام، ويجالس الضُّعفاء، ويتواضع للفُقَراء، وما قام لأحدٍ من العظماء ولا الأعيان، ولا أَلَمَّ ببابِ وزير قَطُّ ولا سلْطان.

وحكى محمَّد بن الخضر، عن أبيه، قال: خدمتُ سَيِّدي الشيخ عبد القادر ثلاث عشرة سنة، فما رأيتُه فيها يتمخط ولا يتنخَّع، ولا قعدت عليه ذُبابة، ولا قام لأحدٍ من العظماء، ولا أَلَمَّ ببابِ ذي سُلطان، ولا جَلَسَ على بساطه، ولا أكل من طعامه إلَّا مرَّة واحدة، وكان يرى الجلوسَ على بساط الملوك ومن يليهم من العقوبات المعجَّلة. وكان يأتيه الخليفة أو الوزير أو من له الحُرْمة الوافية وهو جالسٌ، فيقوم ويدخل داره، فإذا جلس خَرَج الشيخ من داره لئلا يقوم لهم، وإنَّه ليكلِّمَهم الكلام الخشِن، ويبالغ لهم في العِظَة، وهم يقبِّلُون يده، ويجلسون بين يديه متواضعين متصاغرين. وكان إذا كاتَبَ الخليفةَ يكتب إليه: عبد القادر يأمرك بكذا، وأمره نافِذٌ عليك، وطاعتك واجبة عليه، وهو لك قُدْوة وعليك حُجَّة. فإذا وقف الخليفة على ورقته قَبَّلها، وقال: صَدَقَ الشيخ.

وقال الشيخ محمد بن قائد الأَوَاني - وسيأتي ذكره في هذا الكتاب -: كنتُ عند سيدنا عبد القادر ، فسأله سائل: علامَ بنيت أمرك؟ قال: على الصدْق، ما كذبتُ قَطُّ، ولا لما كنتُ في المكتب، ثم قال: كنتُ صغيرًا في بلدنا، فخرجتُ إلى السَّواد في يوم عَرَفة، وتبعت بقرًا حَرَّاثة، فالتفتتْ إليَّ بقرة، وقالت لي: يا عبد القادر، ما لهذا خُلِقْتَ، ولا بهذا أُمرتَ. فرجعتُ فَزِعًا إلى دارنا، وصَعِدْتُ إلى سطح الدَّار، فرأيتُ النَّاس واقفين بعرفات، فجِئْتُ إلى أُمي، وقلتُ لها: هبيني لله ﷿، وَأْذني لي في المسير إلى بغداد أشتغل بالعِلْم، وأزور الصَّالحين. فسألتني عن سبب ذلكَ؟ فأخبرتُها