خبري، فبكَتْ وقامتْ إلى ثمانين دينارًا ركنية، وَرَّثَها أبي، فتركتْ لأخي أربعين دينارًا، وخاطت في دَلَقي تحت إِبْطي أربعين دينارًا، وأَذِنَتْ لي في المسير، وعاهدتني على الصِّدْق في كلِّ أحوالي، وخرجتْ مودِّعة لي، وقالت: يا ولدي، اذهَبْ فقد خَرَجْتُ عنك لله ﷿، فهذا وَجْه لا أراه إلى يوم القيامة. فسرتُ مع قافلةٍ صغيرة نطلبُ بغداد، فلما تجاوزنا هَمَذان، وكُنَّا بأرض برتيك خَرَج علينا ستون فارسًا، فأخذوا القافلة، ولم يتعرَّض لي أحد، فاجتاز بي أحدهم، وقال: يا فقير، ما معك؟ فقلتُ: أربعون دينارًا، فقال: وأين هي؟ قلتُ: مخاطة في دَلَقي تحت إِبْطي. فظنني أستهزئ منه، فتركني وانصرف. ومرَّ بي آخر، فقال لي مِثْلَ ما قال الأَوَّل، وأجبته كجواب الأول. فتركني وانصرف، وتوافيا عند مقدَّمهم، وأخبراه بما سمعاه مني، فقال: عليَّ به، فأُتي بي إليه، وإذا هم على تلٍّ يقتسمون أموال القافلة، فقال لي: ما معك؟ قلتُ: أربعون دينارًا، فقال: وأين هي؟ قلتُ: مخاطة في دَلَقي تحت إبْطي. فأمر بدَلَقي فَفُتِقَ، فوجد فيه الأربعين دينارًا، فقال لي: ما حَمَلَك على هذا الاعتراف؟ قلت: إنَّ أمي عاهدتني على الصِّدْق، فأنا لا أخون عهدها. فبكى، وقال: أنتَ لم تَخُنْ عهدَ أُمِّك، وأنا اليوم كذا وكذا سنة أخون عهد ربي. فتاب على يدي، فقال له أصحابه: أنتَ كنتَ مقدَّمنا في قَطْع الطَّريق، وأنتَ الآن مقدَّمنا في التوبة. فتابوا كلُّهم على يدي، وردُّوا على القافلة ما أخذوا منهم، فهم أول من تاب على يدي.
وقال سيدنا الشيخ محيي الدين رحمة الله عليه: بلغتْ بي الضَّائقة في غلاءٍ نَزَلَ ببغداد، إلى أَنْ بقيت أيامًا لم آكل فيها طعامًا، بل كنت أتَّبعُ المنبوذات أَطْعَمُها، فخرجتُ يومًا من شِدَّة الجوع إلى الشَّطِّ لعلِّي أجد وَرَقَ الخسِّ أو البَقْل أو غير ذلك من المنبوذات، فأتقوتُه، فما ذهبتُ إلى موضعٍ إلَّا وجدت غيري قد سبقني إليه، وإنْ أدركتُ شيئًا وجدتُ جماعةً من الفقراء، ولا أستحسن مزاحمتهم عليه، فرجعتُ أمشي وسط البلد، فلا أدرك موضعًا قد كان فيه شيء منبوذ إلَّا وقد سُبِقْتُ إليه، حتى وصلتُ إلى مسجد في سوق الريحانيين وقد أجهدني الجوع، وعَجَزْتُ عن التَّماسك، فدخلتُ إليه، وقعدتُ في جانبٍ منه، وقد كدت أُصافح الموت، إذْ دَخَلَ شابٌّ عجمي ومعه خبز رصافي وشواء، وجلس يأكل، فكنتُ أكاد كلَّما رَفَعَ يده باللُّقْمة أفتح فمي من شِدَّة