للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الجوع، حتى أنكرتُ على نفسي، وقلت: ما هذا؟ ما ها هنا إلَّا الله، أو ما قضاه من الموت، إذ التفت العجمي إليَّ فرآني، فقال: بسم الله يا أخي، فأبيتُ عليه، فأقسم عليَّ، فبادرَتْ نفسي إلى إجابته، فأكلتُ مقصرًا، وأخذ يسألني: ما شُغْلُك؟ ومِنْ أين أنت؟ ومن تعرف؟ فقلتُ: أما شغلي فمتفقِّه، وأما مِنْ أين أنا؟ فمن جِيلان. فقال لي: فأنا أيضًا جِيلاني، فهل تعرف لي شابًّا جِيلانيًّا يسمَّى عبد القادر، ويعرف بسِبْط أبي عبد الله الصَّوْمعي الزَّاهد؟ فقلتُ: أنا هو. فاضطربَ لذلك، وتغيَّر وجهه، وقال: والله يا أخي، لقد وصلتُ بغداد ومعي بقيةُ نفقةٍ لي، فسألتُ عنك، فلم يرشدني أحدٌ إلى أن نَفِدَتْ نفقتي، وبقيتُ بعدها ثلاثة أيام لا أجد ثمن قوتي إلَّا مما لك معي، فلما كان هذا اليوم الرَّابع، قلتُ: قد تجاوزتني ثلاثةُ أيامٍ لم آكل فيها طعامًا، وقد أَحَلَّ لي الشَّرْعُ أَكْلَ الميتة، فأخذتُ من وديعتك من هذا الخُبْز والشِّواء، فَكُلْ طَيّبًا، فإنَّما هو لك، وأنا ضيفُك الآن بعد أن كان في الظَّاهر لي وأنت ضيفي. فقلتُ: وما ذاك؟ فقال: إنَّ أمك وجَّهت لك معي ثمانية دنانير، فاشتريتُ منها هذا الطَّعام، وأنا معتذر إليك من خيانتي لك مع فُسحة الشَّرْع لي في بعض ذلك، فسكَّنْتُه وطيَّبْتُ من نفسه، وفَضَلَ من طعامنا ما دفعته إليه مع شيء من الذَّهب، فقَبِلَه، وانصرف.

وقال عبد الله السُّلمي: سمعت سيِّدنا الشيخ عبد القادر رحمة الله عليه يقول: بقيتُ أيامًا لم أستطعم فيها بطعام، فبينا أنا في باب محلَّة القطيعة الشَّرْقية؛ وإذا رجلٌ قد جعل في يدي قرطاسة مصرورة وانصرف، فأقبلتُ حتى دفعته لبعض البقَّالين، وأخذتُ منه خبز سعيد وخبيصًا (١)، وجئتُ إلى مسجدٍ مُفْرد كنتُ أخلو فيه لإعادة الدَّرْس، وتركتُ ذلك في القِبْلة بين يديَّ، وأخذتُ أفكر: هل آكل أم لا؟ فلمحت قِرْطاسًا مطويًّا في خَلَلِ الحائط، فتناولتُه، فإذا فيه مكتوب: قال الله تعالى في بعض كُتُبه السَّالفة: ما للأقوياء والشَّهوات، إنَّما جُعِلَتِ الشهواتُ لضعفاء المساكين المؤمنين ليستعينوا بها على الطَّاعات. قال: فأخذتُ المنديل، وتركتُ ما كان فيه في القبلة، وصلَّيتُ ركعتين، وانصرفْتُ.

وقال الشيخ طلحة بن مُظَفَّر العَلْثي: قال شيخنا عبد القادر: أقمتُ ببغداد في بدوِّ أمري عشرين يومًا ما أجد ما أقتاتُ به، ولا أجد مباحًا، فخرجتُ إلى خراب إيوان


(١) الخبيص: وهو المعمول من التَّمرِ والسَّمنِ، القاموس المحيط (خبص).