للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

كسرى أطلبُ مباحًا، فوجدتُ هنالك سبعين رجلًا من الأولياء كلهم يطلب ما طلبت، فقلتُ: من المروءة أنْ أُزاحمهم؟! فرجعتُ إلى بغداد، فلقيني رجلٌ أعرفه من بلد أهلي، فأعطاني قُراضة (١)، وقال: هذه بعثتْ بها أُمُّك إليك معي، فأخذتُ منها قطعة تركتها لنفسي، وأسْرعتُ بالباقي إلى خراب الإيوان، وفرَّقت القُراضة كلَّها على أولئك السبعين، فقالوا لي؟ ما هذا؟ قلتُ؟ إنَّه قد جاءني هذا من عند أمي، وما رأيتُ أن أتخصص به دونكم. ثم رجعتُ إلى بغداد، واشتريتُ بالقطعة التي معي طعامًا، وناديت فقراء، فأكلنا جميعًا، ولم يبت معي من القُراضة شيء.

وقال أبو عبد الله النجار: قال لي سيِّدنا الشيخ عبد القادر: تَرِدُ عليَّ الأثقالُ الكبيرة لو وُضِعَتْ على الجبال تفسَّخت، فإذا كثرت عليَّ وضعتُ جنبي على الأرض، وقلتُ ﴿فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (٥) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا﴾ [الشرح: ٥ - ٦] ثُمَّ أرفع رأسي وقد انفرجت عني تلك الأثقال.

وقال لي: كنتُ أشتغلُ بالفِقْه على المشايخ، وأخرج إلى الصَّحراء، ولا آوي في بغداد، وأجلس في الخراب باللَّيل والنَّهار، وكنتُ ألبس جُبَّة صوفٍ، وعلى رأسي خُريقة، وكنتُ أمشي حافيًا في الشَّوك وغيره، وأقتات بخرنوب الشوك، وقمامة البَقْل، وورق الخسِّ من جانب النَّهر والشَّطِّ، وما هالني شيء إلَّا سلكته.

وقال لي: كنتُ آخذ نفسي بالمجاهدة حتى طَرَقني من الله ﷿ الحال، فكان يَطْرُقني بالليل والنهار وأنا في الصَّحراء، فأصرخ وأهجُّ (٢) على وجهي، وما كنتُ أعرف إلَّا بالتخارس والجنون، وحُمِلْتُ إلى البيمارَسْتان، وطرقتني الأحوال حتى متُّ، وجاؤوا بالكفن والغاسل، وجعلوني على المغتسل ليغسلوني، ثم سُرِّي عني وقمتُ.

وقال الجُبَّائي: قال لي سيدنا الشيخ عبد القادر: أتمنى أن أكون في الصَّحارى والبراري كما كنتُ في الأوَّل، لا أرى الخَلْق ولا يروني، ثم قال: أراد الله ﷿ مني منفعة الخلق، فإنَّه قد أسلم على يدي أكثر من خمس مئة من اليهود والنَّصارى، وتاب على يدي من العَيَّارين والمشالحة وقُطَّاع الطُّرُق أكثر من مئة ألف، وهذا خيرٌ كثير.


(١) القراضة: ما سقط بالقرض، ومنه قراضة الذهب. انظر "معجم متن اللغة": ٤/ ٥٣٦.
(٢) كلمة عامية بمعنى أهيم، ولها أصل فصيح، انظر "قاموس رد العامي إلى الفصيح": ٥٦٩.