وكان منهم من اضطرب ظاهرًا وباطنًا، ومنهم من اضطرب باطنُه، وثبت ظاهره، ورأيتك لم تضطرب باطنًا ولا ظاهرًا، وسألني أن يتوبَ على يدي، رحمة الله عليه.
سمعتُ والدي ﵀ يقول: خرجت في بعض سياحاتي إلى البرية، ومكثتُ أيامًا لا أجد ماءً، فاشتدَّ بي العطَش، فظلَّلتني سحابة، ونزل عليَّ منها شيء يشبه النَّدى، فتروَّيتُ به، ثم رأيتُ نورًا أضاء به الأفق، وبدت لي صورة، ونوديت منها: يا عبد القادر، أنا ربُّك، وقد حلَّلْتُ لك المحرَّمات -أو قال: ما حرمت على غيرك- فقلتُ: أعوذ بالله من الشَّيطان الرَّجيم، اخسأ يا لعين، فإذا ذلك النُّور ظلام، وتلك الصورة دخان، ثم خاطبني، وقال: يا عبد القادر، نجوتَ منِّي بعملك بحكم ربّك، وفقهك في أحوال منازلاتك، ولقد أضللتُ بمثل هذه الواقعة سبعين من أهل الطَّريق. فقلتُ: لربي الفَضْل والمِنَّة. فقيل له: كيف علمتَ أنَّه شيطان؟ قال: بقوله: قد حَلَّلْتُ لك المحرَّمات.
وقال عمر الرَّازي: ما رأتْ عيناي أفقه في علوم الحقائق من سيِّدي الشيخ محيي الدِّين عبد القادر، قيل له: إنَّ بعض مريديه يقول: إنه يرى الله تعالى بعيني رأسه، فاستدعى به، وسأله عن ذلك، فقال: نَعَمْ، فانتهره، ونهاه عن هذا القول، وأخذ عليه أن لا يعود، فقيل له: أمحقٌّ هذا أم مُبْطل؟ قال: هو محقٌّ يُلَبَّسُ عليه، وذلك لأنَّه شَهِدَ ببصيرته نور الجمال، ثم خرق بصيرته إلى بصر متقد، فرأى بصره ببصيرته يتصل شعاعها بنور شهوده، فظنَّ أنَّ بصره رأى ما شهدته بصيرته، وإنما رأى بصرُه بصيرته فحسب وهو لا يدري، قال الله تعالى: ﴿مَرَجَ الْبَحْرَينِ يَلْتَقِيَانِ (١٩) بَينَهُمَا بَرْزَخٌ لَا يَبْغِيَانِ﴾ [الرحمن: ١٩ - ٢٠] وإنَّ الله ﷿ يبعث بمشيئته على أيدي ألطافه أنوار جلاله وجماله إلى قلوب عباده، فتأخذ منها ما تأخذ الصُّور من الصور ولا صور، ومن وراء ذلك رداء كبريائه الذي لا سبيل إلى انخراقه. وكان جمعٌ من المشايخ والعلماء حاضرين، فأطربهم سماع هذا الكلام، ودهشوا من حُسْن إفصاحه عن حال الرجل.
وقال الشيخ المعمر جرادة: لقد كنت يومًا في دار سيدنا الشيخ عبد القادر ﵁، وهو جالسٌ ينسخ، فسقط عليه من السقف تراب، فنفضه ثلاث مرَّات، يسقط عليه وهو ينفضه، ثم رَفَع رأسه في الرابعة إلى السَّقْف، فرأى فأرة تبعثر، فقال: طار رأسك.