ولما قُتِلَ بَعَثَ العاضد منشورًا بالوزارة لأسد الدِّين بخطِّ الفاضل، وعليه بخطِّ العاضد ما صورته: هذا عهدٌ لم يعهد إلى وزيرٍ بمثله، فتقفَد ما أراك الله أهلًا بحمله، وخُذْ كتابَ أمير المؤمنين بقوَّة، واسحَبْ ذيل الافتخار بأنِ اعْتَرف بخدمتك بيتُ النُّبوة، والتزمْ حقَّ الأمانة تجدْ إلى الفوز سبيلًا ﴿وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيكُمْ كَفِيلًا﴾ [النحل: ٩١].
وأرسل العاضد نسخةَ الأَيمان إلى أسد الدين، وحَلَفَ كلُّ واحدٍ منهما لصاحبه على الوفاء والطَّاعة والصَّفاء، فتصرَّف أسدُ الدين شهرين ومات، ولما احْتُضر أوصى إلى ابنِ أخيه صلاح الدين، فاختلف عليه جماعةٌ من الأُمراء عقيب وفاةِ أسد الدين، وبلغ نورَ الدينْ اتِّفاقُ الأمراء على صلاح الدين، فقال له الملك المُعَظَم تورانشاه بن أيوب، وكان أسنَّ من صلاح الدِّين: يا مولانا أريد أن أسير إلى أخي. فقال له: إنْ كنتَ تسير على مِصْر وترى يوسف أخاك بعين أنَّه كان يقف في خدمتك وأنت قاعد فلا تسير، فإنك تفسد العباد والبلاد، فتحوجني إلى عقوبتك بما تستحقه، وإن كنتَ تسير إليه، وترى أنَّه قائم مقامي، وتخدمه كما تخدمني، وإلا فلا تذهب إليه. فقال: يا مولانا سوف يبلغك ما أفعل من الخدمة والطَّاعة. وسار إلى مصر، فتلفاه صلاحُ الدين من بِلْبِيس وخدمه، وقدَّم له المال والخيل والتُّحف، وأقام على أحسن حال، وفعل ما ضمن لنور الدين.
وكان للعاضد خادمٌ يقال له مؤتمن الخلافة، وكان مُقَدَّم السُّودان والخدم، والمشار إليه في القَصْر، فأمر بقتال الغُزِّ، واتَّفق العسكر المِصْري مع الخادم وثاروا على الغُزِّ، فقتلوا منهم جماعة، فركب صلاح الدِّين وشمس الدولة، ودخلا إلى باب القصر، وأبلى شمس الدولة بلاءً حسنًا، وقتل الخادمَ وجماعة من السودان، فأرسل العاضد إلى صلاح الدين يتعتَّب عليه، ويقول: فأين أمانتُكُم؟ هذا الخادم جاهل، فَعَلَ ما فعل بغير أمرنا. فقال صلاحُ الدين: نحن على الأَيمان والعهود ما نتغير، وما قتلنا إلا مَنْ قَصَدَ قتلنا.