للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

ثم إنَّ الصَّالح ضيَّق علي بني الدَّاية، وطلب منهم تسليمَ الحصون التي بأيديهم، وبلغ صلاح الدِّين، فشقَّ عليه، وخاف افتراقَ الكلمة، واستيلاءَ الفرنج على الشَّام، فكاتَبَ ابنَ المقدَّم والأمراء ينكر عليهم اجتراءهم عليه وعلى الدَّولة، وقال: أولاد الدَّاية هم أركانُ الدَّولة، والله لئن لم يُطْلَقوا لأسيرَنَّ إليكم، ولأبدِّدَنَّ شَمْلَكم. فكتبَ إليه ابنُ المقدَّم: لا تجعل هذا سببًا لطمعك في البلاد، وأن تستولي على بيت أستاذك، وإيَّاك هذا. فَغَضِبَ صلاحُ الدين، وتجهَّز إلى الشَّام، فبلغه وصول أُسطول من صِقِلِّية إلى الإسكندرية، فخاف على البلاد، وأقام، فوصل الأُسطول، وفيه ستُّ مئة قطعة، فيها من الخَيَّالة ألف وخمس مئة، ومن الرَّجَّالة ثلاثون ألفًا ومعهم الأبراج، ومن المجانيق والدَّبَّابات وآلة الزَّحف، فنزلوا جزيرة الإسكندرية، وصَعِدوا بأَسْرهم، وزحفوا على البلد، وألصقوا الأَبراج بالأسوار، ونصبوا السَّلالم، ففتح المسلمون الأبواب، وخرجوا إليهم، وركب جماعةٌ في الشخاتير نحو سفنهم، فخسفوها وغرَّقوها، وضَرَبَ المسلمون مَنْ كان في الجزيرة بالنِّفْط، فانهزموا، وغَرِقَ منهم أكثر ممن قُتِلَ، ولم ينجُ منهم إلا القليل، وقيل: كان ذلك في سنة إحدى وسبعين.

وفيها ملك صلاحُ الدِّين دمشق، لما انقضتْ نوبةُ الأُسطول سار إليها بعساكره، وكان ابنُ المقدَّم والقاضي كمال الدين بن الشَهْرُزُوري وابن الجاولي والأعيان قد كاتبوه، وكان بالقلعة رَيحان الخادم، فعَزَم على قتاله، فجهَّز إليه عسكر دمشق، وركب صلاح الدِّين من جسر الخشب (١)، والتقاه أهل دمشق بأَسْرهم، فأحدقوا به، فَنَثَرَ عليهم الدَّراهم والدَّنانير، ودَخَل دمشق، لم يُغْلق في وجهه باب، ولا منعه مانع.

وقال القاضي [الفاضل] (٢): فملكنا دمشق عنايةً لا عَنْوَةً، ولم نَخْطُ بحمد الله إلى خطيئةٍ خُطْوة، وما جَرَتْ منا مِنْسأةٌ فتجري فيها أُسوة، وكان عسكر دمشق لما رأوا فعل العوام انكفؤوا راجعين إلى القلعة، ونزل صلاح الدين بدار العقيقي، وكانت دارَ أبيه، ونزل أخوه شمس الدَّولة بدار عمه أسد الدين [شيركوه] (٢)، وتمنَّعتِ القلعةُ عليه أيامًا، ثم سلَّمها إليه ريحان [الخادم] (٢)، وأحسنَ صلاحُ الدِّين إلى ابنِ المقدَّم والقاضي


(١) في (ح): الجسور، والمثبت من "الروضتين": ٢/ ٣٤١.
(٢) ما بين حاصرتين من (م) و (ش).