للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[ابن] (١) الشَّهْرُزُوري، ومشى إلى داره، فانزعج القاضي، وخرج إلى لقائه، ودخل صلاح الدين، فجلس وباسَطَه، وقال: يا كمال الدِّين لما كنتُ في الشحنكية قد كانت بيننا هَنَات ومشاحنات، وما مشيتُ إليك إلا لأُزيل ما في خاطرك من الوهم، وأعرِّفَك أَنَّ ما في قلبي لك ما تكره، فطِبْ نَفْسًا وقَرَّ عَينًا، فالأَمْرُ أَمْرُكَ، والبَلَدُ بلدك.

قلت: ومشي صلاح الدين إلى دار كمال الدين من أحسن ما يسطر في السير، وهو دليلٌ على تواضعه وعفوه بعدما قدر، فيا طوبى لمن جاء بعده إن فكَّر واعتبر، وعرف قدر إنعام الله عليه فحمد وشكر، وأكثر الشعراء في أخذ صلاح الدين دمشق] (١).

وقال سَبُع بن خَلَف الأَسَدي: [من البسيط]

لله أنتَ صلاحَ الدين من أَسَدٍ … أدنى فريستِهِ الأيامُ إنْ وَثَبا

رأيتَ جِلِّق ثغرًا لا نظير له … فجئتَها عامرًا منها الذي خَرِبا

نادتْكَ بالذُّلِّ لما قَلَّ ناصِرُها … وأَزْمعَ الخَلْقُ من أوطانها هَرَبا

أحييتها مِثْلَ ما أحييتَ مِصْرَ فقد … رَدَدْتَ من عَدْلها ما كان قد ذَهَبا

هذا الذي نصر الإسلام فاتَّضحتْ … سبيلُه وأهان الكُفْرَ والصُّلُبا

ويوم شاورَ والإيمانُ قد هُزِمَتْ … جيوشُه حيث كانَ الجَحْفَلَ اللَّجِبا

أَبَتْ له الضَّيمَ نفْسٌ مُرَّةٌ ويدٌ … فعَّالةٌ وفؤاد قطُّ ما وَجَبَا

يَسْتَكْثِرُ المَدْحَ يُتْلى في مكارمه … زُهدًا ويَستصغر الدُّنيا إذا وهَبَا

فهو الجوادُ ولكن لا يُقال كبا … وهو الحُسامُ ولكن لا يقالُ نَبَا

وهو الهِزَبْرُ ولكن لا يُقال طغا … وهو الضِّرامُ ولكن لا يُقال خَبَا

فأَنتَ إسكندرُ الدُّنيا ووارِثُها … فاقصدْ ملوكَ خُراسان وَدَعْ حَلَبا (٢)

ثم إنَّ صلاحَ الدِّين أسكن أخاه سيف الإسلام طُغْتِكِين قلعة دمشق، ثم كَتَبَ إلى الملك الصالح [ابن نور الدين] (١) كتابًا يتواضع له فيه، ويخاطبه بمولانا وابنِ مولانا، ويقول: إنما جِئْتُ من مِصْر خدمةً لك لأؤدِّي بعض ما يجب من حقوق المخدوم


(١) ما بين حاصرتين من (م) و (ش).
(٢) القصيدة في "خريدة القصر" قسم شعراء الشام: ١/ ٢٤٢ - ٢٤٤، وسبع بن خلف هو المعروف بوحيش الأسدي.