للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الآخرة سنة ثمانٍ وأربعين وخمس مئة، وفوَّض السُّلْطان القضاء والخطابة إلى جمال الدين عبد الله بن عمر قاضي اليمن، وتسلَّم السُّلْطان هذه الأماكن في أربعين يومًا، أولها ثامن عشرين جمادى الأولى، وآخرها ثامن شهر رجب.

ذِكْرُ فتوح القُدْس: سار إليه السُّلْطان، فنازله يوم الأحد منتصف رجب، وكان المنجِّمون قد قالوا له: تفتح القُدْس وتذهب عَينُك الواحدة. فقال: رضيت أن أفتحه وأعمى.

وكان قد نَزَلَ على غربيِّه أولًا، ثم انتقل إلى شماليِّه من باب العمود إلى بُرْج الزاوية، ومن هذا المكان أخذه الفرنج، وكان مشحونًا بالمقاتلة من الخيَّالة والرَّجَّالة ما يزيد على ستين ألفًا غير النِّساء والذُّرِّيَّة، فنصب عليه المجانيق وآلة القتال، وتعلَّق النَّقابون بالسُّور، وقاتل الفرنجُ قتالًا شديدًا، فلما رأوا أَنَّ المُسْلمين قد ظهروا عليهم سُقِط في أيديهم، وأيقنوا بالخِذْلان فصاحوا: الأمان، فبطل عنهم القتال، واستقرَّ الأمر على أن يخرجوا بأنفسهم وأموالهم وذُرِّيَّاتهم سوى الخيل الحربية والسِّلاح بعد أن يؤدِّي كلُّ واحدٍ منهم عشرة دنانير، وعن المرأة خمسة دنانير، وعن الصَّبي أربعة دنانير، وعن الطِّفْل دينارًا، ومن عجز منهم كان رقيقًا يستملك، ومن أراد من النَّصارى الإقامة فليقم، وتُؤخذ منه الجِزْية، وأقرَّ بأيديهم القُمامة، وعيَّنوا أماكن يزورونها، وسَلَّموا البلد يوم الجمعة سابع وعشرين رجب ليلة المعراج، فكانت مُدَّة استيلاءِ الفرنج عليه اثنتين وتسعين سنة، لأَنَّهم أخذوه سنة إحدى وتسعين وأربع مئة، [وفتح في هذه السنة؛ سنة ثلاث وثمانين وخمس مئة] (١) ودخل السُّلْطان الصَّخرة، وغَسَلها بالماوَرْد وبلحيته وهو يبكي، ومحا الصُّور منها، وكَسَرَ الصُّلْبان، وأخرب دار الدَّاوية، وعمر المسجد الأقصى، وفرَّق الأموال التي أخذها من الفرنج -وكانت نيفًا وثلاث مئة ألف دينار- على العلماء والفقهاء والصُّوفية، وكان قد حَضَرَ معه هذا الفتح زُهاء عشرة آلاف عِمامة من جميع الأجناس، وتطاول جماعةٌ من الأعيان إلى الخطابة، فتذكَّر السُّلْطان قولَ ابنِ زكي الدين قاضي القضاة بدمشق: [من البسيط]

وفتحكم حلبًا بالسَّيف في صَفَرٍ … مُبَشِّرٌ بفتوح القُدْس في رَجَبِ


(١) كذا قال، والصواب سنة (٤٩٢ هـ)، ومكث في أيديهم (٩١) سنة.