أو ذا في دقائقه عن علوم الديوان العزيز، ﴿مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إلا لَدَيهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ﴾ [ق: ١٨]، ﴿أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيهِمْ يَكْتُبُونَ﴾ [الزخرف: ٨٠].
فصل: وإنَّ مما أضحك ثغر الاستعبار ما انتهى عن العوام وأشباه الأنعام وطَغَام الشَّام من الخوض في المذاهب، والانتهاء في التَّشْنيع إلى [اختلاق](١) كلِّ قولٍ كاذب، أما يعلم صلاح الدين وكل من صافح الإسلام قلبه أن هذا البيت المعظَّم الهاشمي هو البيت الذي اختاره الله من بَرِيَّته، واستودعه أسرار نبوته، واسترعاه خَلْقَه، واستخلفه في أرضه، وتعبَّدَ الأُممَ بولائه، ورفع من قدره وشأنه، وقسم الجَنَّة والنَّار بين أوليائه وأعدائه، وخصَّه لسوق الدنيا بحذافيرها إليه، وتحريم الصَّدقة عليه، وغَرَسَ له في قلبِ كلِّ مؤمن حُبًّا، فقال عَزَّ من قائل: ﴿قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيهِ أَجْرًا إلا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى﴾ [الشورى: ٢٣] فإذا كان ولاؤهم على غيرهم فَرْضًا، فكيف لا يتولى بعضهم بعضًا: أفصائرٌ دين الله مُضْغة لكلِّ جاهلٍ، أغلف القلب موقور السَّمْع، منزور العقل، مفتون العقيدة، قد حَطَّه الله عن أوج الاجتهاد إلى حضيض التقليد، وتردَّى من مكان بعيد، لا يفرِّق بين أيًا من أي، ولا يعرف الرُّشْد من الغَيّ، لا يعقِلُ الحقَّ فيتوخَّاه، ولا الباطل فيتوقَّاه، أما يعلمُ صلاح الدين أَنَّ هذا البيت المقدَّس عنه يؤخذ الفَرْض، ومنه تتلقَّى السُّنَة، وباعتقاد إمامته تنعقد الجماعة، يُعَلِّم ولا يُعَلَّم، ويُخرس كلَّ منطق إذا تكلَّم، ولهذا قال عليُّ بنُ أبي طالب ﵇:"نحن صنائع رَبِّنا، والنَّاسُ بَعْدُ صنائعٌ لنا" فما لكلِّ ذي ظَلْعٍ لا يَرْبَع على ظَلْعه، والخوضُ في دين الله؟ أما تعلم أَنَّ الحُكْم في دين الله مردودٌ إلى هذا البيت: أفرد الله تعالى بذلك منصب خليفته، وعزل عنه سائر خليقته، فقال سبحانه: ﴿وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيطَانَ إلا قَلِيلًا﴾ [النساء: ٨٣].
ومنها: ما جرى من سَيف الإسلام بالحجاز من إزعاج الحُجَّاج، وإرهاج تلك الفِجاج، والإقدام على مناسك الله وشعائره، وإيقاد سعير الفِتن ونوائره، وتجديد السِّيَر القاسطة، وإحياء بِدَعِ القرامطة، ما نَفَر منه كلُّ طَبْعٍ، ومجَّه كلُّ سَمْعٍ، لأَنَّ مكَّة -حَرَسَها الله تعالى- هي أُمُّ الدِّين، الذي انتخبه وقرَّبه أمير المؤمنين، الذي أخرجه إرثًا عن آبائه الخلفاء الأبرار،
(١) ما بين حاصرتين من "الروضتين": ٣/ ٤٢١، وكان أبو شامة قد انتقى فقرات من هذه الرسالة.