والأنبياء المُصْطَفَين الأخيار، فهم أصحابُ هذا البيت مُذْ بوَّأَ الله إبراهيمَ مكانه، ورَفَعَ هو وإسماعيلُ قواعِدَه وأركانَه، وقد كان في الدُّهور المتطاولة، والفترات المتراخية من تداول الدُّوَل، وتناسخ الشَّرائع والمِلَل، ما عَجَزَ أهلُ السِّيَر عن ضَبْطه، وحَصِرَتِ التواريخ عن حَصْره، فلم يكن في هذه الأزمان كلِّها مَنْ تعرَّض لهذا البيت المنصور، في ذلك البيت المعمور، حتى كانتِ الملوكُ في الجاهلية وقَبْلَها يسمُّون هذا الحيَّ من ولد إسماعيل ﵇: أهل الله وسَدَنة بيته، فإذا كانت الظُّغاة والجبابرة، وأهل النِّحَل الكافرة، لم يعترضوا لتلك البقعة المباركة لعِلْمهم بسِرِّ الله تعالى فيها، وفي أهلها، وإحلال المَثُلاث بمن أخافها، وتعرَّض لها مع كونِ الدُّوَل والمِلَل متمالئة عليه، تطمع الآن فيه، والدول تخدمه، والأديان تعظِّمه، هذا من غرائب تساويل الشَّيطان، ومرامي الأطماع، وأماني النفوس، فهذه نبذةٌ من أمالي الشَّرْع وقضايا العقل عُزِيا إلى ما يوجبه الأدب، وعرفان مواقع النِّعَم، أما كان فيما أولاه أمير المؤمنين-صلوات الله عليه- وولاه من تلك البلاد والأطراف، والولايات الواسعة الضَّواحي والأرياف، إلى غير ذلك مما استكفاه فيه كفاف يصدُّه عن الطموح، إلى وطن أمير المؤمنين، والبيت الذي وقفه عليه ربُّ العالمين؟ فليس لأحدٍ مِنْ خَلْق الله تعالى فيه مطمع، ولا لبصرٍ من الأبصار نحوه مَطْمح، فكيف جاز لصلاح الدين أن يرخي عِنان أخيه فيما يقوِّض سوابقه وأواخيه، ويثبِّتُ عليه الحُجَّة، وتتعذَّر المعذرة فيه، هل هذا إلا تحككٌ بالغِيَر، وتنفيرٌ لأوانس النِّعَم؟ نعيذ صلاح الدين بالله مِنْ ذلك.
ومنها: ما قضى الناس منه العَجَب، وفُوْرِقَ فيه من الأدب والحَزْم ما وجب، التَّلَقُّب باللَّقب الذي استأثر به أمير المؤمنين -صلوات الله عليه- وجعله عَلَمًا لعظمته، وصار له كالاسم الأعظم الذي لا يُشارك فيه، ولا ينبغي لغيره، وقد شارف زمان الدَّولة -ثبَّتها الله- خوارج دوَّخوا البلاد، وأسرفوا في العناد، وجاسُوا خلال الدِّيار، وأخافوا المسالك، واستضاموا الممالك، واقتحموا من الشقاق أشقَّ المهالك، فما انتهى أحدٌ منهم فيما ارتكب واحتقب، إلى المشاركة في اللَّقب، فإنْ كان صلاح الدين رأى أو سَمِعَ من شارك الخلفاء الرَّاشدين ﵈ في أخصِّ صفاتهم، وانتهى إلى مساماتهم في سماتهم، فليمهد عذره بذكره والإعثار عليه، ليعلم أَنَّه بسعادته حذا على مثال، ونسجَ على منوال، وامتثل ما سَبَقَ إليه أمثال، وإلا فسبحان الله! أما كان في الألقاب الفاخرة النَّابهة مندوحة