عن الوقوف على هذا المزلق المرتجِّ، وركوب هذا البحر الملتج، والمنازعة فيما لا يوجد له شاهد ولا محتجّ! ومن العجب أَنَّ أمير المؤمنين -صلوات الله عليه- يخاطبه من سمة الملك بما لم يكن له، ويزاحمه هو فيما ليس ينبغي لغيره، ومن الحِكَم البالغة في وجيز الكلام: الذي يَصْلُحُ للمولى على العَبْد حرام.
ومنها: أنَّ كلَّ طرف يتاخمُ الدِّيوان العزيز من مواطن التركمان والأكراد ما زال أهلُه رعيَّةَ العراق، وخَوَلَ الدِّيوان العزيز، يَرِثُون الطَّاعة خالفًا عن سالف، لا يعرفون سوى أبوابه، ولا يجتمعون على غير نوابه، يسافر صلاح الدين -أدام الله علوَّه- إليهم باستزلال أقدامهم، والاسترسال لإقدامهم، وفَلِّ عزائمهم، وطَمْس ما رقمه الزَّمان من الطَّاعة في صدورهم، أفما كان فيهم من ألان الديوان العزيز لصلاح الدِّين مقادته، وألزمهم طاعته، وجعلهم أتباعه وأجناده من جموع تلك الخطط وأمرائها، ومتقدِّمي بيوتها وقدماتها غُنْية عن أجناد الحضرة وأشياع الحوزة؟ ولعل أجمل أعذاره وأمهدها في نفسه أن يقول: إنني أواصِلُ من يواصله الديوان العزيز، وأتقرَّب إلى من يقرِّبه، وتلك خدعةُ الصَّبيِّ عن اللَّبن. وجواب ذلك من وجوه متعدِّدة: أحدها أنه لو كانت قصوده -كما ذكر- لكان ينبغي له أن يقدِّم استئمار الدِّيوان العزيز فيه، ولا يفاتح أحدَهُمْ بخطاب، ولا يسمح لهم إن فاتحوه بجواب دون المطالعة بذلك، وتنجُّزِ الإذن فيه، وعَرْضِ كلِّ ما يجري في عرض التكاتب والتراسل على رأي الدِّيوان العزيز، فما يرتضيه يمضيه، وما يردُّه يقف عند محدود أمره فيه.
والثاني: أَنَّ كلَّ من يتكفَّل الدِّيوان العزيز بأمره، ويقف به في الاستحقاق عند حدِّه وقَدْره، لا يجوز لأحدٍ من الأولياء بَسْطُ أمله إلى حيث يقبضه الديوان العزيز عنه، لأن الذي يُسْديه إلى عبيده من الإنعام، لا يحتاج من غيره إلى تمام، لاسيما إذا عُومل الدِّيوان مع هذه الأحوال الغريبة بالمعافصة والمكاتمة، فظهر على ذلك كلُّ ما يوجب الإيماء بالظُّنون، والإيماض بالعيون، وشاع من ذلك ما أنكرته قلوب الخواصّ، وأطلق ألسنة العوام، نظرًا إلى الظواهر والعادات التي لا يعتبر في الأكثر سواها، ولا يُحْكَمُ في الأغلب إلا عليها، وكتب الظَّواهر إذا حَسُنَتْ، والبواطن إذا عمرت سلمت