من هواجم الأوهام البارعة، ورواجم الأقوال المنازعة، فكيف إذا تنكرت المخايل، واشتبهت الدلائل، فقد أضاع -أدام الله علوه- الحَزْمَ، ونكث عن اللائق بأمثاله من أكابر الأولياء الدِّين يقتدي بهم مَنْ دونهم، إلى غير ذلك من الأسباب التي توجب الاتِعاظ بها، ويُعَوَّل على الألمعية الكريمة في التبطُّنِ لها، كل هذا يجري والديوان العزيز لا يتأثر به، ويحمله على أحسن محامله ثقةً بصلاح الدين، واعتمادًا على صِدْق ولائه، وأصالة رأيه، وصحة معتقده، إلا أنه لما كَثُرَت الأقاويل النَّاشئة عن كل أمرٍ متوهَّمٍ مخيَّل أوجبَ الحزم أن يُواجه هذا المشروح بمثاله، ويُوازن بمقاله، ويكايل بمكياله، ليلمح صلاح الدين -أدام الله علوه- بتلطُّف فطنته النيِّرة مرمى الدِّيوان العزيز في ذلك، فيثوب إلى الواجب من قريب، ويرجع في مسالك المخالصة إلى سواء السَّبيل، فما أشار عليه بذلك مَنْ نصحه، ولا سوَّل له مَنْ شَكَرَ صنيعه عنده، لأنه عَرَضٌ لا يظن ويطنُّ به، ويشكك ويتشكك فيه، وما هذا إلا مِنْ حاسدٍ حَسَدَ صلاحَ الدين على نِعَمِ الدِّيوان العزيز، ولم يستطع أن يغير آراءه الجميلة فيه، فغيَّره هو عليه.
ثمْ من أدلِّ الأشياء على صفاء رأي الدِّيوان العزيز، وتلونه بسعادته (١) عليه ما جرى في البوازيج، وهو عضو من أعضاء العراق، كان الدِّيوان قد استولى عليها، ودخل العسكر المنصور من أقطارها، وأقام شمس الدين مقلَّد بن مهارش بها، يستطلع الأوامر الشَّريفة فيها، فأوعز إليه بالخروج عنها لمكان الوثوق بصلاح الدِّين، وما سبق من حلفه مغلَّظات الأيمان، المودعة خُزُن الدِّيوان، أنه يفتتحها وتكريت معًا، ويسلمها إليه، فركن منه إلى ذلك، وأعذر بالمهلة، وأخذ معه بوثائق الحُجَّة، ثم نقضت بالانتظار والإمهال المُدَّة، فلم يعضد ذلك القولَ فِعْلٌ، ولا لاحت له أمارة، ولا تحرَّك فيه ساكن، وطارت بذلك الوعد عنقاءُ مغرب، مع أَنَّ الديوان العزيز ما كان يتعذَّر عليه أخذ البوازيج ولا غيرها، فإنَّ عسكره المنصور قد فتح القلاع الناهية بين الخَلْق، فاستنزل أهلها من صياصيها الشُّمْخ الشم، فلم تكن البوازبج المستأمَنة بأطماع التركمان، المستأمِنة برعاتها لتمتنع عن الجيوش المنصورة، التي تكفل الله بإظهارها