في كلِّ ما قط، وأيدها بالملائكة في كل ما رق، ولكنَّ حِفْظَ قلبِ صلاح الدين الذي حفظه عند الدِّيوان العزيز من أهمِّ المطالب، واصطفاء ولائه الذي هو أنفس الرَّغائب، ثم رعى الديوان العزيز مع ذلك دقيقةً مهمة، وصوبًا ظاهر الصَّواب، خفيَّ اللَّمْحِ، وهو أن يُظْهِرَ للكافة أَنَّ عند صلاح الدين من حُسْنِ الطاعة ونقاء السريرة، والاجتهاد في مراضي الخدمة ما بعثه على انتزاع البلاد من مخالب الآساد، اقتسارًا وحَرْبًا، وتسليمها إلى الديوان العزيز صَفْوًا عفوًا، خدمةً يطَوَّع بها من تلقاء نفسه، وامتيازًا على كلِّ من يناصبه من أبناء جنسه، واحتجاجًا لأمير المؤمنين -صلوات الله عليه- في اختصاصه وإدنائه، وليعرف أصحابُ الأطراف وولاة الممالك أنَّ مُثُلَ الديوان العزيز إلى صلاح الدين دونهم، وإبطائه إعفاءهم (١)، والإنافة به عليهم عن استحقاق بجميلِ المساعي، واستحبابٍ بحميد الوسائل والدَّواعي، لأن الديوان العزيز خصَّ صلاح الدين بالأَثَرةِ والتقديم، ورفع بناءه على كلِّ بيت قديم، واستهدف فيه مع أصحاب الأطراف، وذوي التيجان الموروثة عن الأسلاف لكلِّ معتبة، واحتمل منهم في سبيله كلَّ لائمة، ولو لم يكن في إحفاظهم، وتنكُّرِ طباعهم، وخطأ حظّهم إلا ما يوجد به -أدام الله رفعته- من بينهم، وقطع به أنفاس منافساتهم من خطابه بالمُلْك، حتى لم يبقَ من يخاطبه قلمُ الديوان العزيز ملكًا سواه، لكان ذلك كافيًا في إنفار قلوبهم، وإيغار صدورهم، واستثارة حفائظهم، واستخراج ضغائنهم، وكأَنِّي بصلاح الدين قد عارض هذه المعاتبة الحازمة، والمراشد الجازمة، والحجج الثَّابتة اللازمة بالامتنان بفتح مِصْر، وجهاد أهلِ الشِّرْك، وسدِّ تلك الثغور المنفرجة، وتمهيد تلك الخطط المضطربة، فإن كان المقصود الجنوح إلى المواربة، والتجانف عن الموافقة والمجامعة، والأخذ في الجدل، وإبراز شُبَهِ في معترض الحِجاج، فذاك أطولُ من الأعمار، وقد جُودل في الآيات المحكمة وصحاح الأخبار، وما أمسكت قط الألسن الأهوية والإعراض عن المماراة والاعتراض، وإن كان المقصود بمحض القول محض الحقِّ، فلا مِرْية أن فوائد فتح مصر كلها مقصورة على صلاح الدِّين -أدام الله سعده- في إطالة الباع، وإطارة الصِّيت، وتأثيل المجد، واجتلابِ الدَّرِّ، والمزاحمة بمنكب