للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الملك، والتخطِّي إلى مقام لم يكن له من قبل، والديوان العزيز في نجوةٍ من ذلك كلِّه، لأن منصب الإمامة المفروضة لا تزيده مصر والثُّغور إذا فتحت، ولا تنقصه إذا استغلقت، وقد كان صيت رسول الله في السماء مشهورًا، وصوت بلال بالأذان في القليب مستورًا، ولقد قُبض رسول الله ولم يَعْدُ سُلْطانُه دُومة الجندل والبحرين، فما كان ضِيقُ رقعة مملكته قادحًا في سَعَة أجزاء نبوته، وكانت الولاية الحقيقية في الدنيا له، وإن كانت أسياف أهلها عليه، وكذلك الإمامة التي هي وراثةُ النُّبوة، فلو لم يكن لأمير المؤمنين -ثبَّت الله دعوته- من دنياه إلا مكان مسجده ومصلاه، لما أبطل تغلُّبُ الباطلِ عليها حقَّه، ولا أخرجه استيلاءُ الطُّغيان عن ملكه لها، وطالما كانت مصر في أيدي الخوارج المارقين، وما أَثَّر ذلك في مماجد الخلافة وإمرة أمير المؤمنين، وكما لم يقدح استيلاءُ المُشْركين على بلاد الشَّام، وهي لمقر الخلافة والإمامة أقرب، كذلك لم يقدح استيلاءُ الخارجين على مصر، وهي عنها أبعد، وأمير المؤمنين -صلواتُ الله عليه- صاحبُ الأرضِ بأَسْرها، والمستحقُّ لها باستخلاف الله تعالى إياه فيها، سواءٌ زُويت كلُّها له أو زُويت عنه، فإنْ نافره منافِرٌ كان كما لو كَفَرَ بالله كافر، فكما لا يُخْرِجُ الكافرَ كُفْرُه أن يكون عبدًا لله، فكذلك التغلُّب على الأرض لا يخرجها عن استحقاقِ خليفة الله، وإذا فخرت الملوك بالممالك، فخرت الممالك بالخلائف، وبعدُ، فوالله ما كانت مِصْرُ محميةً بمن كان فيها، بل باشتغال الخلفاء الرَّاشدين بالأحداث عنها، وما زال عمال الدولة القاهرة حاكمين فيها إلى أن تجدَّدت الأخلاف الشَّاجرة، والفتن النَّائرة، وانتثال الخوارج من كلِّ صوب، وانتزاء النَّواجم من كل أوب، فَشُغِلَ الدِّيوان العزيز عمن تغلَّب على مِصْر من الباغين، كما شُغِلَ عمن تغلَّب على الشَّام من المشركين، وباباتهم، تَمَّ ذلك كلُّه (١): ممن خرج على الخلافة وعصاها، وفارق الجماعة وشَقَّ عصاها، ولم يكن الديوان في أثناء ذلك كلِّه مهملًا لمِصْر، ولا غافلًا عما فعل الظالمون، ولكن أخَّر ذلك إلى حين بلوغ أجلِ الكتاب في التدبير، أَخْذًا بسُنَّة الله تعالى في تقديم الإملاء على التدبير، وكوتب الصَّالح نور الدين محمود بن زَنْكي -


(١) كذا في (ح)، ولم أتبين معناها.