عهد فوفى، واسْتكفي فكفى، وطَبَّ فشفى، ونَهَجَ محجة الطاعة فلم يغادر فيها أَمْتًا ولا جَنَفًا، فكيف يجوز له بسعادته أن يُهَجِّنَ مساعيه الغُرَّ المحجلة، ويُهْبِطَ مكانته المكرمة المبجلة، ويُبْطِلَ حقوقه الثابتة المسجلة، ويخْرج عن يده رأيًا لا تقوم الممالك إلا بأمره، ولا تطمئن المنابر إلا بذكره، ولا يصحُّ نَسَبُ الفخر إلا بالانتماء إلى عبوديته، وليس في سائر الوجوه عنه عِوَض، ولا يأخذ من الخَلْق عنه عفاء لا سيَّما صلاح الدين وأمثاله من أكابر الدِّيوان لا يَفْرعون ذروةَ المجد، ولا يستمدُّون وطاء المُلْك، ولا يستصغرون الخدودَ الصُّعْر، ولا يستذلون الرِّقاب الغُلْب، ولا يتوطَّد لهم مقام زَلِق، ولا يتحزَّمُ لهم وضينٌ قَلِق، إلا إذا استندوا إلى رُكْنه، وأووا إلى ربوة خدمته، وأشرقت عليهم أشعة طاعته، وماسوا في ذلاذل تشريفاته، وكاثروا بجنود حدوده، واستنجدوا بالملائكة التي لا تسوَّم إلا لنصره، فقد عَلِمَ كلُّ مَنْ نظر في التَّواريخ والآثار، ونصحته بصيرتُه في التبضُر والاعتبار، أَنَّ هذا البيت المُعَظَّم مازال يرفع الأقدارَ الخاملة، ويسم الأغفال الهاملة، ويجذب بصنع العبيد من كلِّ مهوى بعيد، تقبلًا لسنة الله تعالى في الإيجاد من العدم، وعموم الأُمم بالنِّعم، فيثورون عليه بطرًا، فيغار الله له منتصرًا، ويعقبه عليهم إظهارًا وظَفَرًا، كدأب آل طولون وآل سامان وآل بُويه وآل سَلْجُوق، وقرونًا بين ذلك كثيرًا، فمن الذي زلزلوه فَثبَتَ؟ ومن ذا الذي حصدوه فنبت؟ وأيّ نار أوقدوها فَخَبَتْ؟ كلا والله ما طاش لهم سَهْمٌ، ولا صَلَدَ لهم زَنْد، ولا فُلَّ لهم حَدّ، ولا قامت إلا ببقائهم قائمة، وهذا أمرٌ عقده الله في سمائه، وحكم بإنفاذه وإمضائه، وعنون به سِرَّ قَدَره وقضائه، ونَصَبَه عَلَمًا على إسخاطه وإرضائه، فمن ذا الذي يحلُّ معاقدَ الأقدار، ويطور بهذه الأطوار، ويمانعُ شامخَ الفلك الدَّوَّار، ويكشف الأستار عن مراد الله في هذه الأسرار؟ ولما اعترض فيه الملائكة المقرَّبون أُسْكتوا وبُكِّتوا بأني أعلم نبأَ ما لا تعلمون، فبالله عليه بسعادته ما الذي أحوجه إلى فَصْمِ العِصَمِ عن بيتٍ هذا مُرْتقاه في الدُّنيا، وله الشَّفاعة والمقامُ المحمود في العُقْبى؟ وما الذي حمله على هذه الوحشات؟ هل استكثر له جزيل المال؟ أو أُنيف بغيره إلى هذا المكان العال؟ أو طُولب بحقِّ الله مما اختاره من الغنائم والأنفال؟ أو حُطَّتْ له رتبة؟ أو ذُلِّلت له صعبة؟ أو طُومِنَ له بَأْوٌ، أو كُفْكِفَ له شَأْو؟ لا والله، بل جعله أمير المؤمنين -صلواتُ الله