للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

بينه وبين هذا القول ثلاثة أشهر، وقال السُّلْطان: والله لَتُؤْخَذَنَّ عكا، ويُقتَل المسلمون، ويكون هو السبب. فكان كما قال.

وكان سامة الجِيلي ببيروت، فكتب إليه السُّلْطان بأن يرصد مراكب الفرنج التي تعبر عليه، فأخذ مراكبَ كثيرةً فيها أموالٌ عظيمة حتى قيل: إنَّه أخذ في يومٍ واحد خمس بطس مملوءة مالًا، ولم يُطْلعِ السُّلْطان على شيءٍ منها، وصحَّ الحديث النَّبوي في هذا الأمر "مَنْ جَمَعَ مالًا من نهاوش أذهبه الله في نهابر" (١) تمزَّقَتْ أمواله، وتغيَّرَتْ أحواله، وخَرِبَتْ ديارُه، ودَرَسَتْ آثاره، وهو الذي سَلَّم بيروت للفرنج.

ذِكْرُ استيلاء الفرنج على عكا: اشتدَّ عليها الحصار في جُمادى الآخرة، وطَمَّ الفرنج الخنادق، ونَصَبوا المجانيق والدَّبّابات والسَّلالم، ومَلَّ المسلمون من السَّهر والتعب والقتال، وأنكت فيهم الجراحات، وكان الفرنج قد صنعوا تلًا من ترابٍ يقدِّمونه يسيرًا يسيرًا، ويقاتلون من ورائه، لأن المسلمين أحرقوا أبراجهم ومجانيقهم ودباباتهم، فعملوا هذا التَّلَ وسَرْدَقُوه، فصار للمقاتلة مثل الحائط.

وجاء كتاب أهل عكا إلى السُّلْطان يقولون: قد عَجَزْنا، وما بقي إلا طلب الأمان والتَّسليم. فلم يَرِدْ على السُّلْطان خبرٌ أشدُّ منه، لأَنَّه كان قد نقل إلى عكا جميع سلاح السَّاحل والقدس ودمشق وحلب ومِصْر، فقال للعسكر: إني هاجم على القوم من البر، ويخرج المسلمون من البلد، فقالوا: ما هذا مَصْلحة، قد ترى ما بين أيدينا من الخنادق [وما لنا سبيل إلى ذلك] (٢)، والرَّجَّالة كالسُّور [بين أيدينا] (٢)، وبعدهم الخَيّالة، وهم أضعافُ عددنا، ولم يوافقوه.

ولما كان يوم الجمعة سابع عشر رجب، والسُّلْطان قد ركب والعساكر بأَسْرها، وإذا بأعلامِ الفرنج قد طَلَعَتْ على عكا وقت الظُّهْر، وصاح الفرنج صيحةً عظيمة، وطلع


(١) أخرجه القضاعي في "مسند الشهاب" (٤٢١) و (٤٢٢)، والرامهرمزي في "الأمثال" (١٣٩) مرسلًا، نهاوش: أي من غير حله، كما تنهش الحية من ها هنا وهاهنا. ونهابر: مهالك. أي: أذهبه الله في مهالك وأمور متبددة. "اللسان" (نهبر).
(٢) ما بين حاصرتين من (م) و (ش).