عَلَمٌ على القلعة، وآخر على مئذنة الجامع، وملؤوا الأبراج بالأعلام، ودخلوا عكا وأسروا مَنْ كان بها، واستولوا على جميع ما كان فيها، وكانوا قبل ذلك قد قرَّروا على أهلها مئتي ألف دينار، وألفي أسير، وصليب الصَّلبوت، ويخرج مَنْ بها من المسلمين سالمين بأموالهم وأهليهم، وأخبروا السُّلْطان فأجابهم، فقال الفرنج: سَلِّموا إلينا المال والأسارى، واقنعوا بأماننا حتى نُسَلِّمَ إليكم أصحابكم. فقال السُّلْطان: وأيُّ أمانةٍ لكم؟ ونخاف من غدْركم، والبلد وما فيه قد صار في أيديكم، وتوقف الحال.
فلما كان يوم السبت سابع عشرين رجب خَرَجَ الفرنج من عكا، ووقفوا وسط المرج بين تل كيسان والعياضية، وأحضروا المُسْلمين موثقين في الحبال، وكانوا زهاء عن ستة آلاف مسلم، وحملوا عليهم حملةَ رجلٍ واحد ضَرْبًا وطعنًا، فقتلوهم، ويَزَكُ (١) المُسْلمين يشاهدوهم، ولا يعلمون لبُعْدهم ما يصنعون، ورجعوا إلى عكا، فلما جاء يَزَكُ المُسْلمين إلى المكان في اللَّيل، وجدوا القَتْلى في مصارعهم، فعادوا، وأخبروا السُّلْطان، فبكى بكاءً شديدًا، ويقال: إنَّه لَطَمَ على رأسه، ونتَفَ لحيته، ووقَعَ العويل والبكاء في العسكر، ورَحَلَ السُّلْطان عن منزله.
ذِكْرُ ما جرى بعد انفصالِ أمر عكا:
لما كان غُرَّة شعبان يوم الأحد رحل الفرنج من عكا ومقدَّمهم الإنكتار، وكان ملكًا عظيمًا، فسار في البر بالفارس والرّاجل، والمراكب في البحر معهم فيها أزوادهم، فنزلوا على نهر القصب، وكانوا ثلاثة أقسام: الملك العتيق، واسمه جفري في المقدَّمة مع السّاحلية، والإنكتار مع الفرنسيسية في الوسط، وأولاد السِّتّ أصحاب طبرية في السّاقة، والسُّلْطان في أعراضهم، وجَرَى بينهم قتال على نهر القصب، قتل فيه أياز الطَّويل مملوك السلْطان، وكان فارسًا عظيمًا، في دبُّوسه عشرة أرطال حديد، كان يَضْرِبُ الفارس فيهشِّمه، فقاتل في ذلك اليوم قتالًا عظيمًا، وقتل من الفرنج جماعةً، فتقنطَرَ به فرسُه، فقتلوه، فحَزِنَ السُّلْطان عليه، ودفن على تلٍّ عالٍ مُشْرف على بركة،
(١) اليزك: كلمة فارسية تعني طلائع الجيش، وهي جماعة كانت ترسل للاستكشاف، انظر عنهم "الجيش الأيوبي في عهد صلاح الدين" ص ١٧٧ - ١٨٠.