وكَثْرةِ أموالها وحِكَمِها، وكذا الرُّوم في نسبها (١) وعِظَمِ سلطانها، وكثرةِ مدائنها، وأن لها دينًا تتبيَّنُ فيه حلالَها من حرامها، وكذا التُّرك لهم النضارةُ والحُسنُ والشجاعةُ، وكذا جميع الأمم، لكلِّ أمةٍ مَلِكٌ يُدبِّوها ويَجمع كلمتَها. وذكر كلامًا طويلًا ثم قال: ولم أرَ للعرب شيئًا من هذه الخِصال، لا في أمر دينٍ ولا دنيا ولا عقول، مع مهانتها وذُلّها وصِغَر نفوسها، ومخالطتها الوحوشَ النافرة والحشراتِ القبيحة، يقْتُلون أولادهم من الفاقَةِ، ويأكلُ بعضهم بعضًا من الحاجة. قد خرجوا من مطاعم الدنيا وملابسها وشهواتها ولَذَّاتها، فأفضلُ طعامِهم لحومُ الإبل التي يعافُها كثير من السباع، لِثقَلها وسُوء طَعْمها. وإنْ قَوى أحدهم ضَيفًا عَدَّها مَكْرُمة، وإن أُطعِم طُعْمةً عدَّها غنيمة، تَنطِقُ بذلك أشعارُهم، ويفتخر به رجالُهم، ما عدا هذه التنوخية التي أسَّس جدّي اجتماعَها، وشَدَّ مملكتَها، وحماها من عَدوِّها، يعني اليمن.
فقال له النعمان: أيُّها الملك حقّ لأمَّةٍ أنت منها أن تسموَ بفضلِها، ويَعْظُمَ خَطبُها، وتَعلو درجتُهَا، إلا أن عندي جوابًا عن كل ما نَطق به الملك من غير ردٍّ عليه، فإن أَمِنتُ غضبه قلتُ. قال: قل، فأنت آمن. فقال: أصلح الله الملك: إنَّ أُمتَك ليست تُنازَعُ في الفضل لموضعها في عُقولها وأحلامها، وما أكرمها الله به من وِلايتها وأحكامها.
وأما العربُ فإنها تَفْضُل الأمم التي ذكرتَ بعزِّها ومَنَعتها، وبأسها وشجاعتها، وأنسابها، وسخائها، وفصاحتها ولغتها، ودينها، وحُسنِ ألوانها، وشِدَّة عقولها، وأنفتها، ووفائها.
فأمَّا عزُّها ومَنَعتها؛ فإنها لم تَزل مجاورةً لآبائك الذين دوَّخوا البلاد، ووطَّدوا الممالك، وقادوا الجيوشَ، لم يطمع فيها طامعٌ، ولم يَنَلْهم نائل. حصونُهم ظهورُ خيلهم، وجُنّتهم رماحُهم وسيوفُهم، وغيرُهم من الأمم عِزُّهم الطينُ والحجارةُ وجزائر البحور.