للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وكان فَطِنًا، ذكيًّا، حَسَنَ الظَّنِّ بالفقراء، يحسن إليهم ويزورهم، ويتفقدهم بالمال والأطعمة، وقضيته مع أصحاب الشيخ حياة لما بدَّدوا المُسْكر من بين يديه مشهورة، وكان يقول: وبها نُصِرْت.

وكان طول ليالي رمضان لا يغلق باب القلعة، وجِفان الحلاوات خارجة إِلَى الجامع، والزَّوايا، والرُّبُط، وبيت الإبر، والمِزَّة إِلَى أبي القاسم السعردي، وعمر الخلخال والي الجبل، وغيره، وكان إنعامه العامُّ شاملًا للخاصِّ والعام.

[ولمَّا فارقت دمشق بسبب ما جرى فِي حديث القدس طلعت إِلَى الكرك، وأقمت عند الملك الناصر، وكنت أتردد إِلَى القدس ونابلس من سنة ست وعشرين (١) إِلَى سنة ثلاث وثلاثين، ثم جرت أسباب أوجبت قدومي إِلَى دمشق، فَسُرَّ بقدومي، وزارني، وأحسن إليّ، وفصل لي خلعة سنية، فامتنعت من لبسها، فقال: لا بالله، ولو ساعة، ليعلم النَّاس بأنك قد رضيت، وزال ما كان بيننا من الوحشة. وبعث لي بغلته الخاص، وعشرة آلاف درهم. وجلست فِي جامع التوبة ليلة عرفة، وحضر، وبكى، وأعتق مماليكه وجواريه، وقال لي: قد رجع الحق إِلَى نصابه، ومثلك يصلح أن يكون فِي خرائب نابلس والقدس والكرك! والله إن دمشق تغار عليك أن تكون فِي غيرها. وأقمنا معه من سنة ثلاث وثلاثين إِلَى أن تُوفِّي فِي سنة خمس وثلاثين وست مئة فِي أرغد عيش، وأحسن حال، وأهنا بال] (٢).

ذِكْرُ وفاته، رحمه الله تعالى:

مرض فِي رجب مرضين مختلفين، [فِي الأعالي والأسافل، وكنت كل يوم أعوده أنا والأماثل] (٢)، فكان الجرائحي يُخرج العِظام من رأسه، وهو يسبِّحُ الله ويحمده، ويقدِّسه ويوحده، ثم اشتدَّ به الذَّرَب، فكان يتحاملُ إِلَى أَنْ غُلب، فلما يئس من نفسه قال لوزيره جمال الدين بن جرير: يَا جمال الدِّين، فِي أيش تكفنوني؟ فقال: حاشاك [من ذلك] (٢)، فقال: دَعْني مِنْ هذا، فما بقي فيَّ قوة تحملني أكثر من نهار غد، [وتواروني] (٢) فقال: عندنا فِي الخزانة نصافي. فقال: حاشا لله أن تكفني من هذه


(١) كذا قال هنا، والصحيح أنَّه غادر دمشق فِي أواخر سنة (٦٢٧ هـ)، انظر ص ٣٠٥ من هذا الجزء.
(٢) ما بين حاصرتين من (ش).