للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

عليه، فأَذن له، وكان كسرى إذا دخل عليه أحدٌ سجد له، فدخل سيف وطأطأ رأسَه، فعلم كسرى بُعدَ همَّتِه، وشَرف نفسه، ثم سلّم وجلس، وقال: أيها الملك، غَلبَتْنا الحبشة على بلادنا، فجئتُك مستصرخًا لتخرجَهم منها، وتكونَ بلادُنا لك.

فقال: بَعُدَت أرضُكم عن أرضنا، وهي قليلةُ الخير، وإنّما هو البعير والشاء، وذلك مما لا حاجة لنا به، ولم أكن لأُوَرِّط جيشًا من فارس بأرض العرب، لا حاجةَ لي بذلك، وأجازه بعشرة آلاف درهم، فنَثرها في الدّهليز، فنهبها الغلمان، وأُخبِر كسرى بذلك، فقال: إن لهذا الرجل لشأنًا، رُدُّوه فردُّوه، فقال له: عَمَدْت إلى حِباء الملك الذي حَباك به فأعطيتَه النّاس، فقال: ما أصنع بالذَّهب والفضة، وأرضي نَبْتُها (١)، وأنا من أملاك ذي رُعَيْن، وهل أَجَزْتُ أحدًا بدون عشرة آلاف دينار؟ وإنما قَصد تَعظيم نفسه وأرضِه في عين كسرى، فقال له: أقمْ عندنا حتى نَنظُرَ في أمرك.

فأقام عنده مدة، فاستشار كسرى أصحابه فيه، فقالوا: إن في سُجونك رجالًا حَبستَهم للقتل، فابعث بهم معه، فإن هلكوا، كان الذي أَردْتَ بهم، وإن ظهروا على البلاد كان مُلكًا ازْدَدْتَه إلى مُلكك، فأمر بعرض السجون، فكانوا ثمان مئة، فقدَّم عليهم رجلًا من العُظماء، يقال له: وَهْرِز بن حِمْير في ثماني سفائن، في كلّ سفينة مئةُ رجل وما يحتاجون إليه من الزاد والسلاح، فغرقت منها سفينتان، ونَجت إلى اليمن ستة، فأَرْسَوا بساحل عَدَن.

وقال ابن الكلبي: كان أبو مُرَّة الفيَّاض ذو يزن من أشراف اليمن، وكانت تحتَه ريحانة ابنة ذي جَدَن، فولدت له غُلامًا فسمَّاه: معدي كرب، وكانت ذات جَمال، فانتزعها أَبْرهة من أبي مرة، فنكحها قَهرًا.

وخرج أبو مُرَّة من اليمن، فلحق ببعض ملوك بني المنذر، ويقال: هو عمرو بنُ هند، فسأله أن يكتب له كتابًا إلى كسرى يُعرّفُه شرفَه ومكانتَه، فقال له: أقم عندي، فلي في كلِّ سَنة وِفادةٌ على كسرى. وذكر بمعنى ما تقدّم، وأن كسرى قال له: أقمْ عندي حتى أَنظُرَ في أمرك، ووعده أن ينصرَه، فأقام عنده، واشتغل عنه كسرى بحرب الروم.

ومات أبو مُرَّة بباب كسرى، وولدت ريحانة من أبرهة غلامًا سماه: مسروقًا، ونشأ


(١) في (خ) و (ك): تنهبتها، والمثبت من (ب)، وفي الطبري ٢/ ١٤٠: ما جبال أرضي التي جئت منها إلا ذهب وفضة.