قال الواقدي: لما تم له خمس سنين؛ قدمت به حليمة مكةَ، وقد رأت غمامة تُظله في الطريق، إن سار سارَتْ، وإن يقف وقفت، فأفزعها ذلك، فلما قربت من مكة؛ نامت في بعض الأباطح، ثم انتبهت فلم تجده (١).
وذكر الثعلبي في "تفسيره" القصة عن كعب الأحبار قال: لما قضت حليمة حق الرضاع أتت بالنبي ﷺ إلى مكة لترده إلى عبد المطلب، قالت: فأتيت به إلى الباب الأعظم من أبواب مكة، فسمعت مناديًا ينادي: هنيئًا لك يا بطحاء مكة، اليوم يرد عليك النور والدين والجمال والبهاء، قالت: فوضعته عند الباب وذهبت لأصلح من شأني، فسمعت هدة شديدة فالتفت فلم أره، فقلت: يا معاشر الناس، أين الصبي؟ فقالوا: أي الصبيان تعنين؟ قلت: محمَّد بن عبد الله بن عبد المطلب، نضر الله به وجهي، وأغْنى عَيلَتي، ربيته حتى إذا أدركت فيه سروري وأملي، اختلس من يدي قبل أن تمس قدماه الأرضَ، واللَاتِ والعُزَّى لئن لم أره لأرمين نفسي من شاهق هذا الجبل فلأُقَطَّعَنَّ إرْبًا إرْبًا، فقالوا: ما رأينا أحدًا. قالت: فلما آيسوني وضعت يدي على أم رأسي وقلت: وامحمداه، واولداه، فأبكيت الجواري والأبكار ببكائي، وإذا بشيخ فانٍ يتوكأ على عصاه، قال: ما لك يا سعدية؟ فقلت: فقدت ابني محمدًا.
فقال: لا تبكي أنا أدلك على من يَعْلمُ عِلْمَه، وإن شاء أن يرده عليك فعل، قلت: فدتك نفسي من هو؟ قال: الصنم الأعظم هبل. فقالت: فدخل، وطاف بهبل، وقتل رأسه، وناداه: أيها الإله الأعظم، لم تَزَلْ مِنَّتُكَ على قُريش عظيمةً، وهذه السعدية تزعم أن محمدًا قد ضَلَّ، فَرُدَّه عليها. قالت: فأكب هبل على وجهه، وتساقطت الأصنام وقالت: إليك عنا يا شيخ، إنما هلاكنا على يد محمَّد. فأقبل الشيخ وأنا أسمع لأسنانه اصطكاكًا، ولركبتيه ارتعادًا، وقال: يا حليمة، إن لابنك ربًّا لا يضيعه، فاطلبيه على مهل. قالت: فأتيت إلى عبد المطلب، فلما رآني على ذلك، قال: أَسعْدٌ نزل بك أم نحس؟ قلت: نحس. ففهم وقال: لعل ابنك قد ضل منك؟ قلت: نعم. فسلَّ سيفه -وكان لا يثبت له أحد-[ونادى بأعلى صوته]: يا آل غالب يا آل غالب، فأجابته
(١) انظر "الطبقات الكبرى" لابن سعد ١/ ٩١، وأخرج ابن سعد أيضًا ١/ ١٢٦ - ١٢٧: أن أخته هي التي رأت الغمامة تظله.