للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

منه، وسال الدم على ثيابي ووجهي من أنفي، وأصابني من الذل ما لا أقدر أن أصفه، وقال: ويحكَ أعطيك [رسولَ] رسولِ الله منْ يأتيه الناموس الأكبر الذي كان يأتي موسى وعيسى فتقتله. فقلت: أيها الملك أكذلك هو؟ قال: إيْ والله، وَيْحَكَ يا عَمْرو أطِعني واتَّبعه، فإنَّه والله على الحق وسيظهر على من خالفه كما ظهر موسى على فرعون. فقلت: أيها الملك لو ظننتُ أنك تكره ذلك ما سألتك، فاستحيا مني، فقلت: أَتُبايعني على الإسلام وقد غيَّر الله ما في نفسي، فبسط يده فبايعتُه، فدعا بطَسْتٍ فغسل الدم عني وكساني غير ثيابي، فخرجت إلى أصحابي وكتمتُ إسلامي وأتيت إلى موضع السفنِ فوجدت سفينةً قد شُحِنَت فركبتُ فيها حتى إذا انتهوا إلى الشُّعَيْبةِ (١) خَرجتُ منها ومعي نفقة، فاَبْتَعْتُ بعيرًا وخرجتُ أريدُ المدينةَ، حتى إذا كنت بالهَدَّةِ إذا برجلين فتأملتهما فإذا خالد بن الوليد وعثمان بن طلحة فقلت: أين تريدان؟ فقال خالد: نُريد محمدًا فقد دخل الناس في الإسلام فلو أقمنا لأُخِذْنا برِقابنا كما تُؤخذ الضبع برقبتها في مغَارها، فقلت: والله وأنا أريد محمدًا، فسرنا نحو المدينة وإذا بصائح يصيح: يا رباح، فتفاءلنا به، فلما رآنا قال: قد أعطت مكة المقادةَ بعد هذين، فظننتُ أنه يعني خالدًا وإيّايَ، ثم ولى مدبرًا إلى المسجد يُبَشِّرُ رسولَ الله بقدومنا وقد أَذَّنَ العصرُ فأنَخْنا ولبسنا صالح ثيابنا ودخلنا المسجد، فلما رآنا رسولُ الله تهلَّلَ وجهُه والمسلمون حوله قد سُرُّوا بقدومنا، فتقدم خالد وعُثمانُ فأسلما، ثم تقدمت إليه، فوالله ما هو إلا أن جلستُ بين يديه فلم أستطع أن أرفع طَرْفي إليه حياءً منه، فقلت: أبايعك على أن تغفر لي ما تقدم من ذنبي، ولم يحضرْني ما تأَخَّر، فقال: "إنَّ الإسلامَ يَجُبُّ ما قَبلَهُ، والهِجْرَةَ تَجُبُّ ما قَبْلَها" (٢).

وفي رواية: فقلت: على أن تغفر لي ما تقدم من ذنبي وما تأخر، قال: "نعم".

وأما خالدُ بن الوليد فقال: لما أراد الله بي من الخير ما أراد قذف في قلبي الإسلامَ وحَضَرَني رُشْدي، وقلت: كنت في هذه المواضعِ كُلِّها على محمد، وليس موطنٌ أحضره إلَّا وأَنْصَرِفُ وأنا أرى في نفسي أنني مُوْضِعٌ في غيرِ شيء، وأَنَّ محمدًا


(١) هو مرفأ السفن من ساحل بحر الحجاز، وكان مرفأ مكة ومرسى سفنها.
(٢) أخرجه أحمد في "مسنده" (١٧٧٧٧)، وانظر "السيرة" ٢/ ٧٦ - ٢٧٨، و"المغازي" ٢/ ٧٤١ - ٧٤٥.