للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

ابن الجوزي، العالمِ والخطيبِ والواعظِ الذي طَبَّقتْ شُهرتُه الآفاق، فلم يكن السِّبطُ ليفَوِّتَ درسًا من دروسِ جدِّه، أو مجلسًا من مجالسِ وَعظهِ، بل كان يحضرها جميعها، ويراقب جَدَّه في كلامه وعباراتِه وحركاته وإشاراته، يظهرُ ذلك في قوله في ترجمة جده: "سمعتُه يقول على المنبر في آخر عمره: كتبتُ بأصبعيَّ هاتين ألفَي مجلَّدة" (١).

ولم يَكدِ السِّبطُ يبلغُ السادسةَ عشرة من العمر حتى شجعه جدُّه على عقدِ أول مجلسٍ له، ربما ليطمئنَّ على مدى قُدرته وتَمكُّنهِ، وليرى بعينه مدى قبول الناس له، وتحدثَ السبطُ عن هذه التجربة الناجحة عند ذكره لحوادث سنة (٥٩٦ هـ)، فقال: "وفيها كان ابتداءُ جلوسي عند قبر الإمام أحمد ابن حنبل في يوم الأربعاء، ويجتمع خلقٌ عظيم، ويهبُّ على تلك المجالس من القبول نسيم، ويعرف فيها نضرة النعيم، ويَصحبها كل باردٍ من الطِّيب وكلُّ تكريم، وسلامٌ قولًا من ربٍّ رحيم" (٢). ولم يكن هذا المجلس الناجحُ إلا الخطوة الأولى حيث توالت بعدَه الخطوات، فعندما توفي جده في السنة التالية وهي سنة (٥٩٧ هـ)، قال: "وأصبحنا يومَ السبتِ، وعملنا عزاءَه، وتكلمتُ فيه، وحضر خلقٌ عظيم" (٣).

وعندما غادر بغداد متوجهًا نحو دمشق مرَّ في طريقه بحلب والموصل والرُّها وخِلاط وحَرَّان، وعقد في جميعها مجالس وعظٍ لاقت من أهلها القبول والاستحسان، ولم يكد يصلُ دمشق ويعقدُ مجلسَه في الجامع الأموي بُكرَة كلِّ سبتٍ وفي جامع الجبل، حتى صار مجلسُه حديثَ أهلها وشُغلَهم الشاغل، يُمضون سَحابةَ أسبوعهم ما بينَ حديثٍ عن مجلسه السابق -وما كان فيه من عِبَرٍ وعِظات ونوادر وحكايات، وكم مِن عاصٍ تاب، وكم من ذِميٍّ أسلمَ وأناب- وبين انتظارٍ وتَشوُّقٍ لمجلسه القادم، ولقد وصفَ لنا العلامةُ أبو شامةَ المقدسي مجالسه وتَعلُّقَ أهلِ دمشقَ بها خيرَ وصفٍ، فهو كان ملازمًا لها، فقال: "كانت مجالسُ الوعظِ التي للمذكور من


(١) مرآة الزمان ٢٢/ ٩٤.
(٢) مرآة الزمان ٢٢/ ٨٠.
(٣) مرآة الزمان ٢٢/ ١١٥.

<<  <  ج: ص:  >  >>