للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

محاسنِ الدُّنيا ولذّاتها، فكأنَّ اللهَ قد جَمع له حُسنَ الصورةِ وطيبَ الصَّوتِ، وظَرافةَ الشمائل في الإيراد والجوابات واللِّباسِ وسائرِ الحَركات، فكان يَزدحمُ في مجلسه ما لا يُحصى من الخلق رجالًا ونساء -والنِّساء بمعزلي عن الرجال- في جامع دمشق وجامع الجبل، حضرتُ مجالسَه في صِغَري وكِبَري في الموضعين مرارًا، وكان لا يُفارقُ أحدٌ مجلسَه إذا انفضَّ إلا وشَوقُه مستمرٌّ إلى عودته في الأسبوع الآخر، فإنه كان يجلس كل سبتٍ، وتُبسَطُ السَّجادات والحُصر والبُسُط في كل المواضع القريبةِ من المنبر ما بينه وبين القُبَّةِ في يوم الجمعة، ويَبيتُ الناسُ ليلةَ كل سبتٍ حِلَقًا يقرؤون القرآنَ بالشموع، كل ذاك فرحًا بالمجلس، ومسابقة إلى الأماكن، وعادةُ الدِّمشقيّين التَّفَرُّجُ في أيام السبت، ويُبَطّلون عن أشغالهم بالمدينة، وينقطعون في بساتينهم، وكانوا لا يُفوِّتونَ حضورَ المجلس، ثم ينصرفون منه إلى فُرَجِهم، فلا ينقضي يومهم إلا بالتَّذاكُرِ لما وقع فيه من المحاسن وإنشادِ الأشعارِ، والتَّحدُّثِ بمن أسلم فيه أو تاب، وإيرادِ ما كان فيه من سؤالٍ وجواب، ولم يزل على ذلك مُدَّة سنين" (١).

ولم يقتصر الحرصُ على حضور مجالسِه وسماع وعظه على العامّةِ فحسب، بل ربما كان حرصُ الملوكِ على ذلك أكثر، فلقد كان الملأ المعظَّم عيسى يُبكِّر إلى الجامع الأموي ويقعد عند المنبر الذي عند باب المشهد، ويجلس بين العامة (٢)، وكذلك أخوه الملكُ الأشرفُ موسى حضر مجلسًا عقده السِّبطُ ليلة عرفةَ في جامع التوبة -وذلك بعد عودته من رحلةٍ إلى القدس ونابلس- فتأثَّر الملك الأشرف كثيرًا وبكى، وأعتق مماليكه وجواريه، وقال للسِّبط: "واللهِ إنَّ دمشق تَغارُ عليكَ أن تكونَ في غيرها" (٣).

وكذلك كان شأن العلماء في الحرص على مجالسه ولزومها، فقد كان العماد إبراهيم بن عبد الواحد المقدسي (٦١٤ هـ) يحضر مجالسه في جامع دمشق وقاسيون


(١) المذيل على الروضتين ١/ ١٦٠ - ١٦١.
(٢) مرآة الزمان ٢٢/ ٢٩٠.
(٣) مرآة الزمان ٢٢/ ٣٥٤.

<<  <  ج: ص:  >  >>